كتب وائل لطفى العدد 4324 - السبت الموافق - 23 أبريل 2011
إذا تأملت الصور المصاحبة لهذا التحقيق فربما لن تكون فى حاجة لأن تقرأ التحقيق.. إن هذه الصور التى التقطتها مجلة «المصور» للرئيس المخلوع مبارك حين صار نائبا.. صور عمرها أكثر من 35 عاما.. تبدلت فيها حقائق كثيرة.
وتحولت هذه الأسرة المصرية البسيطة إلى مافيا مخيفة.
اقرأ الصورة جيدا وتأمل المظهر البسيط لهذه الأسرة.
البدلة «السفارى» التى كانت الزى شبه الرسمى للموظفين المصريين
الذين كان مبارك واحدا منهم قبل أن يتحول إلى فرعون ونصف إله.. قارن هذه البدلة بالبدلة التى كان مبارك يرتديها فى أعوامه الأخيرة التى يكتبون له فى نسيجها اسمه بحروف الذهب وتتكلف 25 ألف يورو! واسأل من أين له هذا؟
انظر للمظهر البسيط والمتواضع لزوجته سوزان مبارك.. للفستان ولـ«صندل» القدم بالغ التواضع.. وقارن ذلك بالعنجهية وملامح الصلف.. والغرور واللقب الذى اختارته لنفسها «الهانم»!
وتأمل هذين الشابين.. اللذين لا يختلفان فى المظهر عن والديهما.. وقارن ذلك بالمليارات والقصور والشركات.. إلخ، تأمل الصورة لتعرف منها مسار المستقبل.. حيث يقف الابن الأكبر «علاء» دائما فى ناحية والده.. بينما يلوذ الأصغر جمال بحضن والدته.. وهو التقسيم الذى استمر حتى وقعت الكارثة.. ورغم أن جمال كان دائما بجوار والدته.. إلا أن ذلك لم يمنع من أن يكون لعنة والده.. الخاصة.
الاب يذاكر لعلاء دروسه ... وجمال لم يكن فى الصورة
والحقيقية أنه لو كان المثل يقول إن الولد سر أبيه، فالأكيد أن جمال مبارك هو سر انهيار أبيه، ولعله اللعنة الخاصة التى طاردته وحرمته من أن يحسن الله خاتمته، وهى الدعوة البسيطة التى يرددها ملايين المصريين كل صباح، ولا أحد يعرف إن كان مبارك الأب قد رددها أم لا، لكن الأكيد أنها لم تصل لأبواب السماء فى كل الأحوال..
على أن وصف جمال مبارك بأنه اللعنة التى طاردت والده لا يعنى أن الأب المخلوع يستحق أن يلعب دور الضحية، فقد شارك فى كل شىء من البداية للنهاية، واستسلم طائعا لنفوذ الابن وشلته حتى اليوم الأخير له فى قصر الرئاسة.
مبارك ظل عشرين عاما من حكمه يعتمد على رجال الدولة المصرية فى
حكم مصر حتى جاء جمال ونقل الحكم لشلة اصدقائه
وإذا كان جمال مبارك هو اللعنة التى طاردت والده وقادته إلى هذه النهاية، فالأكيد أنه هو أيضا يعانى من لعنة خاصة هى لعنة عدم القبول، وهى لعنة تدركها جيدا الأمهات المصريات اللاتى يحرصن على أن يحصن أبناءهن ضدها بالدعاء الشهير «ربنا يحبب فيك خلقه»، ولا أحد يعرف أيضا إذا كانت سوزان مبارك قد دعت هذه الدعوة لابنها جمال فى يوم من الأيام أم لا؟ لكن الأكيد أن الدعوة لم يستجب لها، ليبقى الابن حائرا معذبا، فهو يملك كل شىء، من الثروة إلى السلطة، ومن القوة إلى الشهرة لكنه لا يملك نعمة «القبول» التى يمكن أن تجعل المصريين يرضون به رئيسا لهم، والأكيد أنه كان يعرف أنه لا يملك هذه النعمة، وأنه حاول عبر عشرات المدربين والتدريبات والكورسات أن يمتلكها لكن النتيجة كانت صفرا كبيرا، وهى نتيجة حققتها مصر فى كثير من المجالات وزادت فى السنوات التى حكم فيها جمال مبارك مصر مع والده أو بالنيابة عن والده!
وإذا كان لنا أن نلجأ لعلم الأبراج فإن حب السلطة هو أبرز صفات برج الجدى الذى ينتمى له جمال مبارك الذى ولد فى يناير 1963 وقامت الثورة لتنهى حلمه بوراثة مصر وهو فى عامه الثامن والأربعين.
والحقيقة أن عدم حب المصريين لجمال مبارك له أكثر من مبرر بخلاف الرفض العام لفكرة توريث مصر، فملامحه تشى بأنه غامض، متجهم، وفى عينيه تعاسة عميقة لا أحد يعرف سرها أو مصدرها، وهو فى كل الأحوال وعلى خلاف شقيقه الأكبر علاء، شخص مركب نفسيا وصفه الكثيرون بأنه منزوع الكاريزما، لكن أبرع وصف له كان وصف أستاذه صبرى الشبراوى له بأنه شخص بلا عواطف لا يحب ولا يكره ولا يحس بالآخرين تقريبا ولعل انعدام العواطف هو أخطر المشكلات النفسية التى يمكن أن تواجه إنسانا يريد أن يحكم شعبا مثل الشعب المصرى.
سوزان وجمال دائما معا من البداية للنهاية
ورغم أن كل المؤشرات كانت تشى بأن عملية توريثه الحكم أشبه بدخول الجمل من ثقب إبرة إلا أنه صمم باستماتة على أن يرث حكم مصر بعد والده رغم وجود دلائل واضحة على رفض شعبى ورسمى للفكرة جملة وتفصيلا، ولعل تجاهله لهذا الرفض، واستعلاءه عليه هو الذى أدى للانفجار الشعبى العنيف الذى حماه الجيش وتركه يصل إلى مداه بخلع الأب الذى صمت على مخطط التوريث وهو يكتمل خطوة خطوة.
ولعل الأكثر استفزازا من مخطط التوريث نفسه، كان ذلك النفى الممل والمتكرر من مبارك وابنه للتوريث، بدءا من تصريح الأب الشهير فى بداية المخطط بأن مصر ليست مثل سوريا، بمعنى أنه لن يتم توريث الحكم فيها كما حدث فى سوريا، وانتهاء بالنفى المتكرر والرتيب الذى كان جمال مبارك يكرره فى مؤتمراته الصحفية والذى استمر حتى ما قبل الثورة بأيام قليلة.
وإلى جانب التجاهل المستفز لمؤشرات الرفض الشعبى للوريث، كان هناك الأخطر الذى ورط فيه الابن والده بالفعل وهو تجاهل رفض المؤسسة العسكرية لفكرة التوريث، وهو رفض كانت الأدلة والشواهد تقود إليه لدرجة أنه كان يمكن رؤيته بالعين المجردة، ومنذ وقت مبكر نسبيا حيث كشفت برقية دبلوماسية أمريكية نشرها موقع ويكليكس ويعود تاريخها لعام 2007 أن الجيش المصرى قد يشكل عقبة رئيسية فى وجه خلافة جمال مبارك لوالده، حيث سجل السفير الأمريكى السابق فى مصر ريتشارد دونى أن الجيش يمكن أن يكون عقبة رئيسية فى وجه ترشيح جمال، وأشار إلى أن الرؤساء المصريين الأربعة منذ ثورة 1952 جاءوا من صفوف الجيش بمن فيهم حسنى مبارك نفسه»، وعلى ما يبدو فإن الخطيئة التى وقع فيها جمال مبارك وجر والده إليها أنه تم التعامل مع رفض الجيش المصرى لفكرة التوريث بالتجاهل التام، والمضى فى الخطة دون مناقشة الموضوع مع رجال القوات المسلحة التى تشكل القلب الصلب للدولة المصرية، وهو ما جعل الأمور تسير فى طريقها المحتوم بشكل يفسر تصريحات مصادر عليا فى الجيش المصرى بأن القوات المسلحة كانت ستتحرك اعتراضا على التوريث سواء قامت الثورة أم لا ،وإن كان موعد التحرك فى هذه الحالة سيكون شهر أغسطس بدلاً من شهر يناير، وهكذا فإن أخطر طعنة وجهها الابن لوالده هو أنه جرده من مصدر الشرعية الفعلى والحقيقى الذى يستند له رؤساء مصر منذ 52 وحتى الآن ليصبح الرجل عاريا من أى نوع من أنواع الشرعية.
والحقيقة أن اعتراض القوات المسلحة لم يكن فقط اعتراضًا أخلاقيًا على فكرة توريث مصر، أو اعتراضًا على أن يتولى شاب لم يؤد الخدمة الإلزامية مثل جمال مبارك منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكن الاعتراض كان على السياسات التى أغرق بها جمال مبارك وأصدقاؤه فى الحكم مصر خلال السنوات الأخيرة، وهو ما اتضح فى اعتراض ممثل القوات المسلحة فى مجلس الوزراء على خطوات مثل بيع بنك القاهرة، وتخصيص ملايين الأمتار من أرض مصر لرجال أعمال بعينهم، والحقيقة أن الشلة التى استعان بها جمال مبارك فى حكم مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، كانت أحد المسامير المهمة التى دقها فى نعش أبيه ونظام حكمه، وإذا نظرنا للسنوات العشر الأخيرة التى تصاعد فيها نفوذ جمال مبارك لأقصى مدى سنجد تحولاً كبيرًا حيث ظل الأب المخلوع وحتى تولى حكومة عاطف عبيد يتعامل كموظف كبير يستعين فى حكم مصر برجال الدولة المصرية الذين خدموا مثله ومعه فى دولتى عبدالناصر والسادات وترقوا من خلال عطائهم وولائهم للدولة المصرية، والحقيقة أن حكومة كمال الجنزورى كانت آخر حكومة ممثلة لهذا الاتجاه، ثم جاءت حكومة عاطف عبيد كمرحلة انتقالية وكان دورها الأساسى هو إتمام أكبر قدر من عمليات نهب القطاع العام تحت مسمى الخصخصة، ثم حكومة نظيف بتشكيلة وزرائها المعروفة والتى كانت إعلانًا عن تحويل مصر لحكم أوليجاركى «حكم الأقلية» صريح، استأثر من خلاله نخبة لا تزيد علي ألفى شخص يتحكمون فى 24% من إجمالى الناتج القومى المصرى أو ما يقرب من 200 مليار جنيه سنويًا، ويمارسون الجمع بين المحارم السياسية والاقتصادية على النحو الذى تكشفه أوراق التحقيقات المثارة حاليًا.
وإلى جانب الوزراء من رجال الأعمال وأمين التنظيم والأب الروحى أحمد عز كان هناك المنظرون السياسيون والاقتصاديون الذين وصفهم أحد كبار مفكرينا بأنهم مجموعة من مراهقى مدرسة شيكاغو الاقتصادية، أكثر مدارس اليمين الأمريكى تطرفًا ووحشية.
ورغم كل ما ارتكبه جمال مبارك وشلته من مهازل، إلا أن الأب المخلوع لا يمكن أن يظهر فى صورة الضحية، ولا يمكن أن ننسى أن مبارك كان أول من فتح طريق البيزنس أمام ابنه ووريثه المحتمل، وهو لم يزل فى بداية الثلاثينيات من عمره حين جعله المشترى الوحيد لديون مصر التى كانت الدول تفقد الأمل فى إمكانية استردادها فتبيعها لجمال مبارك بثمن بخس ليحصلها هو بكامل قيمتها من الخزانة المصرية، وقد كانت مفاجأة للكثيرين أن يعلن الرئيس مبارك بنفسه عن نشاط ابنه عام 93 فى حوار شهير لمجلة المصور أجراه معه الأستاذ مكرم محمد أحمد، ولعل أرباح بيع الديون هذه كانت الأساس المالى لشركة «انفستمنت» للأوراق المالية المملوكة لجمال مبارك، والتى قدرت مجلة بيزنس ويك قيمتها عام 2005 بـ750 مليون دولار أمريكى ولم يصدر وقتها نفى يذكر من أسرة الرئيس مبارك.
جمال مبارك هو نقطة ضعف أبيه وربما كان هو كعب أخيل الذى قتل منه وعلى ما يبدو فإن نهاية مبارك اقترنت باستسلامه لفكرة التوريث التى ظل مترددًا إزاءها كثيرًا حيث تواترت الأنباء أنه كان قد فاتح عددًا من قادة الدول الخليجية عن نيته نقل الحكم لابنه، وقالت أنباء أخرى أنه كان قد حدد شهر مايو كموعد لنقل الحكم. وهكذا، فإن جمال كان فى البداية والنهاية قاتل أبيه ولعنته الخاصة التى طاردته كثيرًا حتى استسلم لها فحقت عليه اللعنة!
إذا تأملت الصور المصاحبة لهذا التحقيق فربما لن تكون فى حاجة لأن تقرأ التحقيق.. إن هذه الصور التى التقطتها مجلة «المصور» للرئيس المخلوع مبارك حين صار نائبا.. صور عمرها أكثر من 35 عاما.. تبدلت فيها حقائق كثيرة.
وتحولت هذه الأسرة المصرية البسيطة إلى مافيا مخيفة.
اقرأ الصورة جيدا وتأمل المظهر البسيط لهذه الأسرة.
البدلة «السفارى» التى كانت الزى شبه الرسمى للموظفين المصريين
الذين كان مبارك واحدا منهم قبل أن يتحول إلى فرعون ونصف إله.. قارن هذه البدلة بالبدلة التى كان مبارك يرتديها فى أعوامه الأخيرة التى يكتبون له فى نسيجها اسمه بحروف الذهب وتتكلف 25 ألف يورو! واسأل من أين له هذا؟
انظر للمظهر البسيط والمتواضع لزوجته سوزان مبارك.. للفستان ولـ«صندل» القدم بالغ التواضع.. وقارن ذلك بالعنجهية وملامح الصلف.. والغرور واللقب الذى اختارته لنفسها «الهانم»!
وتأمل هذين الشابين.. اللذين لا يختلفان فى المظهر عن والديهما.. وقارن ذلك بالمليارات والقصور والشركات.. إلخ، تأمل الصورة لتعرف منها مسار المستقبل.. حيث يقف الابن الأكبر «علاء» دائما فى ناحية والده.. بينما يلوذ الأصغر جمال بحضن والدته.. وهو التقسيم الذى استمر حتى وقعت الكارثة.. ورغم أن جمال كان دائما بجوار والدته.. إلا أن ذلك لم يمنع من أن يكون لعنة والده.. الخاصة.
الاب يذاكر لعلاء دروسه ... وجمال لم يكن فى الصورة
والحقيقية أنه لو كان المثل يقول إن الولد سر أبيه، فالأكيد أن جمال مبارك هو سر انهيار أبيه، ولعله اللعنة الخاصة التى طاردته وحرمته من أن يحسن الله خاتمته، وهى الدعوة البسيطة التى يرددها ملايين المصريين كل صباح، ولا أحد يعرف إن كان مبارك الأب قد رددها أم لا، لكن الأكيد أنها لم تصل لأبواب السماء فى كل الأحوال..
على أن وصف جمال مبارك بأنه اللعنة التى طاردت والده لا يعنى أن الأب المخلوع يستحق أن يلعب دور الضحية، فقد شارك فى كل شىء من البداية للنهاية، واستسلم طائعا لنفوذ الابن وشلته حتى اليوم الأخير له فى قصر الرئاسة.
مبارك ظل عشرين عاما من حكمه يعتمد على رجال الدولة المصرية فى
حكم مصر حتى جاء جمال ونقل الحكم لشلة اصدقائه
وإذا كان جمال مبارك هو اللعنة التى طاردت والده وقادته إلى هذه النهاية، فالأكيد أنه هو أيضا يعانى من لعنة خاصة هى لعنة عدم القبول، وهى لعنة تدركها جيدا الأمهات المصريات اللاتى يحرصن على أن يحصن أبناءهن ضدها بالدعاء الشهير «ربنا يحبب فيك خلقه»، ولا أحد يعرف أيضا إذا كانت سوزان مبارك قد دعت هذه الدعوة لابنها جمال فى يوم من الأيام أم لا؟ لكن الأكيد أن الدعوة لم يستجب لها، ليبقى الابن حائرا معذبا، فهو يملك كل شىء، من الثروة إلى السلطة، ومن القوة إلى الشهرة لكنه لا يملك نعمة «القبول» التى يمكن أن تجعل المصريين يرضون به رئيسا لهم، والأكيد أنه كان يعرف أنه لا يملك هذه النعمة، وأنه حاول عبر عشرات المدربين والتدريبات والكورسات أن يمتلكها لكن النتيجة كانت صفرا كبيرا، وهى نتيجة حققتها مصر فى كثير من المجالات وزادت فى السنوات التى حكم فيها جمال مبارك مصر مع والده أو بالنيابة عن والده!
وإذا كان لنا أن نلجأ لعلم الأبراج فإن حب السلطة هو أبرز صفات برج الجدى الذى ينتمى له جمال مبارك الذى ولد فى يناير 1963 وقامت الثورة لتنهى حلمه بوراثة مصر وهو فى عامه الثامن والأربعين.
والحقيقة أن عدم حب المصريين لجمال مبارك له أكثر من مبرر بخلاف الرفض العام لفكرة توريث مصر، فملامحه تشى بأنه غامض، متجهم، وفى عينيه تعاسة عميقة لا أحد يعرف سرها أو مصدرها، وهو فى كل الأحوال وعلى خلاف شقيقه الأكبر علاء، شخص مركب نفسيا وصفه الكثيرون بأنه منزوع الكاريزما، لكن أبرع وصف له كان وصف أستاذه صبرى الشبراوى له بأنه شخص بلا عواطف لا يحب ولا يكره ولا يحس بالآخرين تقريبا ولعل انعدام العواطف هو أخطر المشكلات النفسية التى يمكن أن تواجه إنسانا يريد أن يحكم شعبا مثل الشعب المصرى.
سوزان وجمال دائما معا من البداية للنهاية
ورغم أن كل المؤشرات كانت تشى بأن عملية توريثه الحكم أشبه بدخول الجمل من ثقب إبرة إلا أنه صمم باستماتة على أن يرث حكم مصر بعد والده رغم وجود دلائل واضحة على رفض شعبى ورسمى للفكرة جملة وتفصيلا، ولعل تجاهله لهذا الرفض، واستعلاءه عليه هو الذى أدى للانفجار الشعبى العنيف الذى حماه الجيش وتركه يصل إلى مداه بخلع الأب الذى صمت على مخطط التوريث وهو يكتمل خطوة خطوة.
ولعل الأكثر استفزازا من مخطط التوريث نفسه، كان ذلك النفى الممل والمتكرر من مبارك وابنه للتوريث، بدءا من تصريح الأب الشهير فى بداية المخطط بأن مصر ليست مثل سوريا، بمعنى أنه لن يتم توريث الحكم فيها كما حدث فى سوريا، وانتهاء بالنفى المتكرر والرتيب الذى كان جمال مبارك يكرره فى مؤتمراته الصحفية والذى استمر حتى ما قبل الثورة بأيام قليلة.
وإلى جانب التجاهل المستفز لمؤشرات الرفض الشعبى للوريث، كان هناك الأخطر الذى ورط فيه الابن والده بالفعل وهو تجاهل رفض المؤسسة العسكرية لفكرة التوريث، وهو رفض كانت الأدلة والشواهد تقود إليه لدرجة أنه كان يمكن رؤيته بالعين المجردة، ومنذ وقت مبكر نسبيا حيث كشفت برقية دبلوماسية أمريكية نشرها موقع ويكليكس ويعود تاريخها لعام 2007 أن الجيش المصرى قد يشكل عقبة رئيسية فى وجه خلافة جمال مبارك لوالده، حيث سجل السفير الأمريكى السابق فى مصر ريتشارد دونى أن الجيش يمكن أن يكون عقبة رئيسية فى وجه ترشيح جمال، وأشار إلى أن الرؤساء المصريين الأربعة منذ ثورة 1952 جاءوا من صفوف الجيش بمن فيهم حسنى مبارك نفسه»، وعلى ما يبدو فإن الخطيئة التى وقع فيها جمال مبارك وجر والده إليها أنه تم التعامل مع رفض الجيش المصرى لفكرة التوريث بالتجاهل التام، والمضى فى الخطة دون مناقشة الموضوع مع رجال القوات المسلحة التى تشكل القلب الصلب للدولة المصرية، وهو ما جعل الأمور تسير فى طريقها المحتوم بشكل يفسر تصريحات مصادر عليا فى الجيش المصرى بأن القوات المسلحة كانت ستتحرك اعتراضا على التوريث سواء قامت الثورة أم لا ،وإن كان موعد التحرك فى هذه الحالة سيكون شهر أغسطس بدلاً من شهر يناير، وهكذا فإن أخطر طعنة وجهها الابن لوالده هو أنه جرده من مصدر الشرعية الفعلى والحقيقى الذى يستند له رؤساء مصر منذ 52 وحتى الآن ليصبح الرجل عاريا من أى نوع من أنواع الشرعية.
والحقيقة أن اعتراض القوات المسلحة لم يكن فقط اعتراضًا أخلاقيًا على فكرة توريث مصر، أو اعتراضًا على أن يتولى شاب لم يؤد الخدمة الإلزامية مثل جمال مبارك منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكن الاعتراض كان على السياسات التى أغرق بها جمال مبارك وأصدقاؤه فى الحكم مصر خلال السنوات الأخيرة، وهو ما اتضح فى اعتراض ممثل القوات المسلحة فى مجلس الوزراء على خطوات مثل بيع بنك القاهرة، وتخصيص ملايين الأمتار من أرض مصر لرجال أعمال بعينهم، والحقيقة أن الشلة التى استعان بها جمال مبارك فى حكم مصر خلال السنوات العشر الأخيرة، كانت أحد المسامير المهمة التى دقها فى نعش أبيه ونظام حكمه، وإذا نظرنا للسنوات العشر الأخيرة التى تصاعد فيها نفوذ جمال مبارك لأقصى مدى سنجد تحولاً كبيرًا حيث ظل الأب المخلوع وحتى تولى حكومة عاطف عبيد يتعامل كموظف كبير يستعين فى حكم مصر برجال الدولة المصرية الذين خدموا مثله ومعه فى دولتى عبدالناصر والسادات وترقوا من خلال عطائهم وولائهم للدولة المصرية، والحقيقة أن حكومة كمال الجنزورى كانت آخر حكومة ممثلة لهذا الاتجاه، ثم جاءت حكومة عاطف عبيد كمرحلة انتقالية وكان دورها الأساسى هو إتمام أكبر قدر من عمليات نهب القطاع العام تحت مسمى الخصخصة، ثم حكومة نظيف بتشكيلة وزرائها المعروفة والتى كانت إعلانًا عن تحويل مصر لحكم أوليجاركى «حكم الأقلية» صريح، استأثر من خلاله نخبة لا تزيد علي ألفى شخص يتحكمون فى 24% من إجمالى الناتج القومى المصرى أو ما يقرب من 200 مليار جنيه سنويًا، ويمارسون الجمع بين المحارم السياسية والاقتصادية على النحو الذى تكشفه أوراق التحقيقات المثارة حاليًا.
وإلى جانب الوزراء من رجال الأعمال وأمين التنظيم والأب الروحى أحمد عز كان هناك المنظرون السياسيون والاقتصاديون الذين وصفهم أحد كبار مفكرينا بأنهم مجموعة من مراهقى مدرسة شيكاغو الاقتصادية، أكثر مدارس اليمين الأمريكى تطرفًا ووحشية.
ورغم كل ما ارتكبه جمال مبارك وشلته من مهازل، إلا أن الأب المخلوع لا يمكن أن يظهر فى صورة الضحية، ولا يمكن أن ننسى أن مبارك كان أول من فتح طريق البيزنس أمام ابنه ووريثه المحتمل، وهو لم يزل فى بداية الثلاثينيات من عمره حين جعله المشترى الوحيد لديون مصر التى كانت الدول تفقد الأمل فى إمكانية استردادها فتبيعها لجمال مبارك بثمن بخس ليحصلها هو بكامل قيمتها من الخزانة المصرية، وقد كانت مفاجأة للكثيرين أن يعلن الرئيس مبارك بنفسه عن نشاط ابنه عام 93 فى حوار شهير لمجلة المصور أجراه معه الأستاذ مكرم محمد أحمد، ولعل أرباح بيع الديون هذه كانت الأساس المالى لشركة «انفستمنت» للأوراق المالية المملوكة لجمال مبارك، والتى قدرت مجلة بيزنس ويك قيمتها عام 2005 بـ750 مليون دولار أمريكى ولم يصدر وقتها نفى يذكر من أسرة الرئيس مبارك.
جمال مبارك هو نقطة ضعف أبيه وربما كان هو كعب أخيل الذى قتل منه وعلى ما يبدو فإن نهاية مبارك اقترنت باستسلامه لفكرة التوريث التى ظل مترددًا إزاءها كثيرًا حيث تواترت الأنباء أنه كان قد فاتح عددًا من قادة الدول الخليجية عن نيته نقل الحكم لابنه، وقالت أنباء أخرى أنه كان قد حدد شهر مايو كموعد لنقل الحكم. وهكذا، فإن جمال كان فى البداية والنهاية قاتل أبيه ولعنته الخاصة التى طاردته كثيرًا حتى استسلم لها فحقت عليه اللعنة!