٩ آلاف كيلو متر قطعتها «المصرى اليوم» ذهاباً من القاهرة وإياباً من مدن الحدود باتجاهاتها الثلاثة، فى رحلة متواصلة استغرقت نحو الشهرين، رصدت خلالها أوضاع تلك المدن بقراها ونجوعها مترامية الأطراف، وعاشت مع سكانها أوجاعهم وهمومهم التى تطابق الكثير منها رغم الاختلافات الجغرافية والديموجرافية، والعرقية.
«الثورة لم تصل بعد».. جملة وجدتها الأكثر دقة فى وصف ما شهدته من أحوال معيشية لأبناء الأطراف، والتى شابه بعضها مجاعات الصومال، وجاوز البعض الآخر حياة عصور ما قبل الميلاد، ببدائيتها وجهلها وجاهليتها، وجميعها عوامل تنذر بانفجار جديد قد تدفع مصر ثمنه غالياً، لأن تجاهل الأطراف يعنى فتح الأبواب على مصاريعها أمام الطامعين فى بلادنا، وما أكثرهم.
«الإهمال والفقر والعنصرية» كانت العامل المشترك لأوجاع أبناء حدودنا الشرقية والغربية والجنوبية، على حد سواء، فكثير منهم دفع حياته ثمناً للجوع والعطش، بل لرشفة دواء لم يجدها فى ذروة مرضه، وجميعهم أدخلونا دائرة التصنيف العنصرى، بعد أن سبقونا إليها بفعل الغباء الأمنى والتخاذل الإعلامى، فانقسم المصريون فى نظرهم إلى «البدوى» و«البحراوى» أو «ابن الوادى»، وهى مصطلحات توحدوا عليها دون اتفاق مسبق، لكونها خلاصة تمييز صنعته الدولة منذ عقود طويلة، ليكتووا هم بناره، ويتجرعوا مرارته دون أن يسمع بصراخهم أحد.
رحلتنا الطويلة لم ترصد الحالة الإنسانية فحسب، وإنما دفعتها المصادفة «أحياناً» وحب المغامرة «عادة» إلى التطرق لظواهر غاية فى الغرابة، وملفات كادت تكلفنا الحياة، لتكون المحصلة رصداً صحفياً نطرحه أمام المسؤولين فى ٧ حلقات، مغلفاً بتحذير يحمل خلاصة المعايشة: «احذروا انفجار حراس مصر».
أكثر من ١٣٠٠ كيلو متر قطعتها صوب الجنوب الشرقى لمصر فى نحو ١٥ ساعة، لتحط قدماى فى أكثر بقاع الوطن بؤساً وتجاهلاً، بل واستعداداً للانفصال، إنه المثلث الحدودى الجنوبى القابع على خط عرض ٢٢، والذى يتكون من ٥ قرى ومدن هى «شلاتين ومرسى حميرة وأبرق وأبورماد وحلايب ورأس حدربة»، ويسكنه أبناء قبائل العبابدة والبشارية والرشايدة، والذين يبلغ تعدادهم ١٩ ألف نسمة. بمجرد وصولى مدينة شلاتين، وجدت المشهد عكس كل ماتوقعت، فالطريق الذى سلكناه نحو هذه المدينة الحدودية كان يوحى بأننى سأنتقل لعالم آخر، أشبه بما نراه فى الصومال وجنوب السودان، لكن الواقع كان غير ذلك، إذ وجدت مدينة مخططة، وشوارعها مرصوفة، ومنازلها تحمل مزيجاً واضحاً بين الطابع البدوى لأهل الصحراء والحياة العصرية للمدن الكبرى، وهو مزيج يجبرك على الشعور بالراحة، والرغبة فى البقاء.
أمام موقف «السوبر جيت» كان فى انتظارى صديقى إبراهيم خليل، مدير قصر ثقافة شلاتين، والذى نقلت له شعورى بالمفاجأة حيال ماشاهدته من عمران ومدنية، قبل أن أصافحه، فابتسم قائلاً: «أبناء هذا المثلث كانوا يعيشون أعلى الجبال وأسفلها، حيث ظلت القبائل فى تنقل دائم بين المرتفعات بحثاً عن الماء والمراعى لدوابهم، وسكنوا الجبال منذ زمن بعيد، وظلوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم التى غرسها فيهم آباؤهم وأجدادهم، إلى أن قامت الدولة بتوطينهم بمعاونة القوات المسلحة والوزارات المعنية، مما ساعد على رسم هذا الشكل العمرانى الجديد فى المنطقة، والذى راعى عادات وتقاليد أهلها».
فور وصولى مقر إقامتى، قررت أن أتناسى عناء السفر ومشقته، لأقوم بجولة حرة عشوائية داخل المدينة، وتحديداً فى شارعها الرئيسى الذى يحمل اسم «السوق الدولى»، فأيقنت أن الطابع المميز الذى تتسم به هذه المدينة لم يقتصر على مبانيها فحسب، وإنما امتد ليشمل طبائع سكانها، بل وتجارتهم وصناعتهم التى تعبر عن بيئتهم، حيث كانت الكلمة العليا لتجارة الجمال ما بين مصر والسودان، حسبما قال آدم سعدالله، أحد أبناء شلاتين، الذى التقيته فى السوق، إلى أن نشب الخلاف على تبعية المثلث مابين مصر والسودان، عام ١٩٩٣، وقتها قررت السلطات المصرية نقل سوق الجمال إلى رأس حدربة واتخذت إجراءات شديدة التعقيد أمام حركة التجارة البينية مع السودان، فأصبحت السوق التى كانت تعج بالأفارقة بمختلف جنسياتهم وبضائعهم، مهجورة ومهددة بالإزالة، والتهمت البطالة أبناء المدينة».
وكان فى السابق تأتى الشاحنات السودانية لمدينة الشلاتين بعضها محمل بالجمال، والآخر بالبضائع مثل الكركديه والسمسم والحنة والبلح لتفرغ حمولتها، وتشترى المنتجات المصرية، وفى مقدمتها الأجهزة الكهربائية والبلاستيك والحلويات، ولهذا كان معظم سكان المنطقة يعملون فى هذه الحرفة.
وعن توقف حركة التجارة فى المثلث، يقول الحاج محمود خزام، تاجر ومصدر: «قبل عام ١٩٨٤ لم يكن مثلث حلايب على شكله الحالى، فكانت أعداد السكان بسيطة، ويعتمد معظمهم على الصيد والرعى، بينما كان يعمل البعض الآخر لدى شركة التعدين الموجودة فى أبورماد، ولكن بعد مشروع التوطين الذى نفذته الدولة، بدأ أهالى المنطقة فى النزول من الجبال، وأسسوا مدينة الشلاتين بشكلها الحالى، وقتها شهدت حركة التجارة انتعاشة كبيرة، وأصبحت المدينة واحدة من أكثر مناطق التبادل التجارى بين مصر وأفريقيا، وكانت أشبه بسوق حرة مفتوحة، يفد إليها الجلول (اسم يطلق على وفد يضم أكثر من ٢٠ تاجراً) من مختلف الجنسيات الأفريقية عبر السودان ليبيعوا بضائعهم ويشتروا بضائعنا دون أى قيود».
ويضيف «خزام»- الذى تعرفت عليه عبر صديقى «إبراهيم»: «بعد أزمة تبعية المثلث، التى نشبت بين القاهرة والخرطوم، أنشأت السلطات المصرية جهازاً سمته جهاز شؤون القبائل، وهو جهاز أمنى يتخفى فى طابع مدنى، فقام بتعطيل وتعقيد وتشديد إجراءات حركة التبادل التجارى مع السودان، والتى انتهت مؤخراً لقرار بالسماح بدخول سيارات البضائع فقط إلى رأس حدربة، ومنع التجار من عبور الحدود، وهو ما أدى إلى التوقف التام لحركة التجارة، وكبد التجار خسائر أجبرتهم على الإفلاس».
داخل أحد المقاهى المنتشرة فى الشارع التجارى، والتى تعج بالزبائن، كنت على موعد مع عدد من أبناء المثلث، الذين طلبوا لقائى عبر مسؤول النُزل الذى كنت أقيم فيه، بعد أن أخبرهم بهويتى، فدار بيننا نقاش مطول حول مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكان حديث أدركت خلاله أننى أجالس فلاسفة وأدباء ومحللين سياسيين ونفسيين أفذاذاً.
إبراهيم على حسن، تاجر، بدأ الحديث بما انتهت إليه المدينة من أوضاع اقتصادية، غاية فى السوء، فقال: «وقت الرواج التجارى قمت بتوسيع تجارتى وأنشأت مصانع للمنتجات البلاستيكية وشركة للاستيراد والتصدير، وكنت أحارب الوقت لألبى طلبات التصدير للدول الأفريقية، لكن فجأة ودون سابق إنذار أغلقت السوق، وتوقفت المصانع، وأصبحت شركتى على حافة الإفلاس».
والتقط محمد على كرّار، موظف فى الشهر العقارى بالشلاتين، أطراف الحديث بالقول: «منذ إنشاء الجمرك أوكما نسميه الحظيرة، وهى مساحة أرض شاسعة محاطة بأسوار، ومخصصة لتنفيذ عمليات التبادل التجارى بين مصر والسودان عبر منفذى رأس حدربة وسهين، اقتصرت التجارة على كبار التجار فقط، بينما لم يقوى الصغار على متطلبات وإجراءات التبادل التجارى عبر الجمرك، فتوقفت تجاراتهم، وانضموا إلى صفوف العاطلين».
وتدخل صديقى «إبراهيم» فى النقاش قائلاً: «الناس هنا خسرت تجارتهم، وأصبحت غالبيتهم بلا عمل، وحينما فكر بعضهم فى العودة لمهنة الصيد، والتى كانت فى وقت ما هى المهنة الأساسية لسكان الشلاتين، واجهتهم الإجراءات الأمنية المشددة التى حالت دون السماح بممارسة الصيد، هذا بخلاف قلة أو ندرة الأمطار التى قضت تماماً على مهنة الرعى، فأصبحت كل منافذ الحصول على لقمة العيش هنا مسدودة، باستثناء مهنة واحدة، يتصارع عليها شباب المدينة، وهى العتالة، أو العمل فى تحميل وتفريغ سيارات البضائع داخل الحظيرة، وأمام منفذ حدربة».
وبنبرة حادة تحدث فتحى عابد، تاجر، قائلاً: «حتى الثروة الحيوانية التى كانت تدخل من السودان عن طريق منفذى حدربة وسهين توقفت تماماً، واقتصر دخولها من جهة أسوان، دون أسباب واضحة، رغم أن مدينتنا بها محجر طبى كبير»، مطالباً بضرورة عودة استيراد الأبقار عبر منفذى المثلث، بدعوى أن ذلك قد يعيد الرواج التجارى لأبنائه.
«كيف تعود المدينة لسابق عهدها التجارى..؟».. سؤال وجهته للحضور لأستطلع رؤاهم حول مستقبل مدينتهم، فجاءت الإجابة سريعة ومنمقة من الحاج محمود خزام- الذى انضم لجلستنا فى منتصفها- قائلاً: «أولاً يجب إعادة فتح باب التبادل التجارى مرة أخرى، أو الإفصاح عن سبب إغلاقه وتوفير البديل، وثانياً توجد فى أبورماد ميناء طبيعى كانت تعمل أيام شركة التعدين، فإذا تم استخدام هذه الميناء تجارياً، ستصبح الميناء الوحيدة المفتوحة على أفريقيا، وستوازى فى أهميتها ميناء دبى العالمية، لأنها ستخلق رواجاً تجارياً كبيراً بين مصر والدول الأفريقية، وفى أسوأ الأحوال ستدفع الناس للعمل فى الصيد وتجارة الأسماك».
حينما غادرت المقهى، تردد على ذهنى سؤال أصابنى عدم الحصول على إجابة له بصداع، وهو إذا كانت كل سبل العيش هنا مغلقة، وإذا كانت البطالة هى الراعى الرئيسى للسكان.. فكيف يعيشون، ومن أين ينفقون، وفيم يشغلون أوقاتهم..؟
خلف القناوى، مسؤول النزل الذى كنت أقيم فيه، أول من وجهت له ذلك السؤال، فقال :«رغم أنى لست من أبناء هذا المثلث، لكنى أعيش هنا منذ أكثر من ١٥ عاماً، وعاشرت كل الناس ورأيتهم يعيشون أزهى فترات حياتهم وقت الرواج التجارى، لكن بعد إنشاء الجمرك، والخسائر التى نتجت عنه، هجر الناس التجارة، ولجأوا لمهن غير مشروعة كتهريب الأسلحة والمخدرات والأفارقة الراغبين فى الذهاب لإسرائيل، إضافة إلى التنقيب عن الذهب فى جبال العلاقى».
على بعد ١٣٠ كيلو متراً من مدينة الشلاتين تجد مدينة أبورماد، حيث سوق الجمال الجديد وبعض القرى المتناثرة، هناك التقيت عدداً من مشايخ القبائل وأبنائها الذين تحدث جميعهم عن سوء الأحوال الاقتصادية وندرة الجانب الخدمى، خاصة فيما يتعلق بتوفير مياه الشرب والكهرباء وشبكة الاتصالات، وتجاهل الدولة لهم، واتهامهم بالانتماء للسودان، وهى نفس معاناة سكان الشلاتين.
أحمد سر الختم، أحد أبناء المدينة يقول: «نعانى الأمرين للحصول على المخصصات التموينية، كما أن تجارتنا لم تعد، كسابق عهدها، بسبب المشاكل مع السودان، فأصبح الفقر يلازمنا، وبات بعضنا يعيش على معاش الضمان الاجتماعى، فى حين لجأ آخرون إلى الطرق غير المشروعة لكسب قوت يومهم».
وعن حالة التعليم ومدى الإقبال عليه، أضاف الشيخ حامد: «الدولة تمنح أبناءنا فى المدارس خمسة جنيهات يومياً كمصروف جيب، لتشجيعهم على التعليم، وهذا دفع بعض أولياء الأمور لإجبار أبنائهم على الذهاب للمدارس من أجل الجنيهات الخمسة، خاصة فى ظل سوء الأوضاع الاقتصادية، كما جعلهم أكثر حرصاً على الإنجاب لما فى ذلك من مكسب يومى، لكن غالبيتنا حريصون كل الحرص على أن يكمل الأولاد تعليمهم، لأننا نؤمن بأنهم سيكونون صوتنا المسموع لدى أجهزة الدولة فى المستقبل». لا صوت يعلو فوق صوت معركة الانتماء فى حلايب، فبمجرد أن وطأت قدماى هذه المدينة، وكل من التقيه يعطى الأولوية فى حديثه لمسألة الانتماء لمصر، وهى ظاهرة فسرها لى الشيخ حسن هدل، شيخ مشايخ البشارية بحلايب ورأس حدربة، قائلاً: «الانتماء للأرض أكثر الملفات الشائكة التى نعانيها فى هذه المدينة منذ التسعينات، فنحن ننتمى لهذه الرقعة أياً كانت الدولة التى تؤويها»، مشدداً على أن جميع أبناء حلايب الذين يصل عددهم نحو٨٠٠ أسرة، مصريون ويتمتعون مثل أى مصرى بنفس الحقوق والواجبات، ومعرباً عن رفضه أى محاولات من الجانب السودانى لاختلاق مشكلات حول مصرية حلايب.
والتقط الدكتور مسعد سلطان، موظف بمحمية جبل علبة، أطراف الحديث قائلاً: «لابد أيضاً من دراسة الخريطة التعدينية فى حلايب وشلاتين، فهناك دراسات أجرتها جامعتا أسيوط وجنوب الوادى حول ثروات هذه المنطقة، والتى يجب الاستفادة منها». وأضاف «سلطان»: «طالما تحدثنا عن تصحيح المسار، فيجب التصدى لظاهرة الصيد الجائر للحيوانات البرية، التى تمثل ثروة طبيعية لا تقدر بثمن، ففى العهد البائد كان المثلث بمحمياته مرتعاً للأثرياء العرب وغيرهم من الذين يمارسون هواية الصيد، دون أدنى قيود، رغم أنهم يغتالون ثرواتنا الطبيعية». قبل مغادرتى مثلث حلايب، توجهت بزيارة خاطفة لقرية الصيادين فى الشلاتين، وهى زيارة وجدت فيها فرصة لأشتم هواء البحر العليل وأتمتع بصورته البكر، وهناك التقيت بعض الصيادين، جميعهم كانوا من أبناء محافظات الوجه البحرى، والذين أجمعوا على أن أبرز المشاكل التى يعانون منها هى حظر الصيد لمدة ٣ شهورهى «يونيو ويوليو وأغسطس»، مؤكدين أن هذا القرار يؤثر على حياتهم، خاصة أنهم ملتزمون بسداد أقساط مراكبهم.
عشش سكنية فى حلايب
تحقيق أشرف جمال
«الثورة لم تصل بعد».. جملة وجدتها الأكثر دقة فى وصف ما شهدته من أحوال معيشية لأبناء الأطراف، والتى شابه بعضها مجاعات الصومال، وجاوز البعض الآخر حياة عصور ما قبل الميلاد، ببدائيتها وجهلها وجاهليتها، وجميعها عوامل تنذر بانفجار جديد قد تدفع مصر ثمنه غالياً، لأن تجاهل الأطراف يعنى فتح الأبواب على مصاريعها أمام الطامعين فى بلادنا، وما أكثرهم.
«الإهمال والفقر والعنصرية» كانت العامل المشترك لأوجاع أبناء حدودنا الشرقية والغربية والجنوبية، على حد سواء، فكثير منهم دفع حياته ثمناً للجوع والعطش، بل لرشفة دواء لم يجدها فى ذروة مرضه، وجميعهم أدخلونا دائرة التصنيف العنصرى، بعد أن سبقونا إليها بفعل الغباء الأمنى والتخاذل الإعلامى، فانقسم المصريون فى نظرهم إلى «البدوى» و«البحراوى» أو «ابن الوادى»، وهى مصطلحات توحدوا عليها دون اتفاق مسبق، لكونها خلاصة تمييز صنعته الدولة منذ عقود طويلة، ليكتووا هم بناره، ويتجرعوا مرارته دون أن يسمع بصراخهم أحد.
رحلتنا الطويلة لم ترصد الحالة الإنسانية فحسب، وإنما دفعتها المصادفة «أحياناً» وحب المغامرة «عادة» إلى التطرق لظواهر غاية فى الغرابة، وملفات كادت تكلفنا الحياة، لتكون المحصلة رصداً صحفياً نطرحه أمام المسؤولين فى ٧ حلقات، مغلفاً بتحذير يحمل خلاصة المعايشة: «احذروا انفجار حراس مصر».
أكثر من ١٣٠٠ كيلو متر قطعتها صوب الجنوب الشرقى لمصر فى نحو ١٥ ساعة، لتحط قدماى فى أكثر بقاع الوطن بؤساً وتجاهلاً، بل واستعداداً للانفصال، إنه المثلث الحدودى الجنوبى القابع على خط عرض ٢٢، والذى يتكون من ٥ قرى ومدن هى «شلاتين ومرسى حميرة وأبرق وأبورماد وحلايب ورأس حدربة»، ويسكنه أبناء قبائل العبابدة والبشارية والرشايدة، والذين يبلغ تعدادهم ١٩ ألف نسمة. بمجرد وصولى مدينة شلاتين، وجدت المشهد عكس كل ماتوقعت، فالطريق الذى سلكناه نحو هذه المدينة الحدودية كان يوحى بأننى سأنتقل لعالم آخر، أشبه بما نراه فى الصومال وجنوب السودان، لكن الواقع كان غير ذلك، إذ وجدت مدينة مخططة، وشوارعها مرصوفة، ومنازلها تحمل مزيجاً واضحاً بين الطابع البدوى لأهل الصحراء والحياة العصرية للمدن الكبرى، وهو مزيج يجبرك على الشعور بالراحة، والرغبة فى البقاء.
أمام موقف «السوبر جيت» كان فى انتظارى صديقى إبراهيم خليل، مدير قصر ثقافة شلاتين، والذى نقلت له شعورى بالمفاجأة حيال ماشاهدته من عمران ومدنية، قبل أن أصافحه، فابتسم قائلاً: «أبناء هذا المثلث كانوا يعيشون أعلى الجبال وأسفلها، حيث ظلت القبائل فى تنقل دائم بين المرتفعات بحثاً عن الماء والمراعى لدوابهم، وسكنوا الجبال منذ زمن بعيد، وظلوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم التى غرسها فيهم آباؤهم وأجدادهم، إلى أن قامت الدولة بتوطينهم بمعاونة القوات المسلحة والوزارات المعنية، مما ساعد على رسم هذا الشكل العمرانى الجديد فى المنطقة، والذى راعى عادات وتقاليد أهلها».
فور وصولى مقر إقامتى، قررت أن أتناسى عناء السفر ومشقته، لأقوم بجولة حرة عشوائية داخل المدينة، وتحديداً فى شارعها الرئيسى الذى يحمل اسم «السوق الدولى»، فأيقنت أن الطابع المميز الذى تتسم به هذه المدينة لم يقتصر على مبانيها فحسب، وإنما امتد ليشمل طبائع سكانها، بل وتجارتهم وصناعتهم التى تعبر عن بيئتهم، حيث كانت الكلمة العليا لتجارة الجمال ما بين مصر والسودان، حسبما قال آدم سعدالله، أحد أبناء شلاتين، الذى التقيته فى السوق، إلى أن نشب الخلاف على تبعية المثلث مابين مصر والسودان، عام ١٩٩٣، وقتها قررت السلطات المصرية نقل سوق الجمال إلى رأس حدربة واتخذت إجراءات شديدة التعقيد أمام حركة التجارة البينية مع السودان، فأصبحت السوق التى كانت تعج بالأفارقة بمختلف جنسياتهم وبضائعهم، مهجورة ومهددة بالإزالة، والتهمت البطالة أبناء المدينة».
وكان فى السابق تأتى الشاحنات السودانية لمدينة الشلاتين بعضها محمل بالجمال، والآخر بالبضائع مثل الكركديه والسمسم والحنة والبلح لتفرغ حمولتها، وتشترى المنتجات المصرية، وفى مقدمتها الأجهزة الكهربائية والبلاستيك والحلويات، ولهذا كان معظم سكان المنطقة يعملون فى هذه الحرفة.
وعن توقف حركة التجارة فى المثلث، يقول الحاج محمود خزام، تاجر ومصدر: «قبل عام ١٩٨٤ لم يكن مثلث حلايب على شكله الحالى، فكانت أعداد السكان بسيطة، ويعتمد معظمهم على الصيد والرعى، بينما كان يعمل البعض الآخر لدى شركة التعدين الموجودة فى أبورماد، ولكن بعد مشروع التوطين الذى نفذته الدولة، بدأ أهالى المنطقة فى النزول من الجبال، وأسسوا مدينة الشلاتين بشكلها الحالى، وقتها شهدت حركة التجارة انتعاشة كبيرة، وأصبحت المدينة واحدة من أكثر مناطق التبادل التجارى بين مصر وأفريقيا، وكانت أشبه بسوق حرة مفتوحة، يفد إليها الجلول (اسم يطلق على وفد يضم أكثر من ٢٠ تاجراً) من مختلف الجنسيات الأفريقية عبر السودان ليبيعوا بضائعهم ويشتروا بضائعنا دون أى قيود».
ويضيف «خزام»- الذى تعرفت عليه عبر صديقى «إبراهيم»: «بعد أزمة تبعية المثلث، التى نشبت بين القاهرة والخرطوم، أنشأت السلطات المصرية جهازاً سمته جهاز شؤون القبائل، وهو جهاز أمنى يتخفى فى طابع مدنى، فقام بتعطيل وتعقيد وتشديد إجراءات حركة التبادل التجارى مع السودان، والتى انتهت مؤخراً لقرار بالسماح بدخول سيارات البضائع فقط إلى رأس حدربة، ومنع التجار من عبور الحدود، وهو ما أدى إلى التوقف التام لحركة التجارة، وكبد التجار خسائر أجبرتهم على الإفلاس».
داخل أحد المقاهى المنتشرة فى الشارع التجارى، والتى تعج بالزبائن، كنت على موعد مع عدد من أبناء المثلث، الذين طلبوا لقائى عبر مسؤول النُزل الذى كنت أقيم فيه، بعد أن أخبرهم بهويتى، فدار بيننا نقاش مطول حول مشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، وكان حديث أدركت خلاله أننى أجالس فلاسفة وأدباء ومحللين سياسيين ونفسيين أفذاذاً.
إبراهيم على حسن، تاجر، بدأ الحديث بما انتهت إليه المدينة من أوضاع اقتصادية، غاية فى السوء، فقال: «وقت الرواج التجارى قمت بتوسيع تجارتى وأنشأت مصانع للمنتجات البلاستيكية وشركة للاستيراد والتصدير، وكنت أحارب الوقت لألبى طلبات التصدير للدول الأفريقية، لكن فجأة ودون سابق إنذار أغلقت السوق، وتوقفت المصانع، وأصبحت شركتى على حافة الإفلاس».
والتقط محمد على كرّار، موظف فى الشهر العقارى بالشلاتين، أطراف الحديث بالقول: «منذ إنشاء الجمرك أوكما نسميه الحظيرة، وهى مساحة أرض شاسعة محاطة بأسوار، ومخصصة لتنفيذ عمليات التبادل التجارى بين مصر والسودان عبر منفذى رأس حدربة وسهين، اقتصرت التجارة على كبار التجار فقط، بينما لم يقوى الصغار على متطلبات وإجراءات التبادل التجارى عبر الجمرك، فتوقفت تجاراتهم، وانضموا إلى صفوف العاطلين».
وتدخل صديقى «إبراهيم» فى النقاش قائلاً: «الناس هنا خسرت تجارتهم، وأصبحت غالبيتهم بلا عمل، وحينما فكر بعضهم فى العودة لمهنة الصيد، والتى كانت فى وقت ما هى المهنة الأساسية لسكان الشلاتين، واجهتهم الإجراءات الأمنية المشددة التى حالت دون السماح بممارسة الصيد، هذا بخلاف قلة أو ندرة الأمطار التى قضت تماماً على مهنة الرعى، فأصبحت كل منافذ الحصول على لقمة العيش هنا مسدودة، باستثناء مهنة واحدة، يتصارع عليها شباب المدينة، وهى العتالة، أو العمل فى تحميل وتفريغ سيارات البضائع داخل الحظيرة، وأمام منفذ حدربة».
وبنبرة حادة تحدث فتحى عابد، تاجر، قائلاً: «حتى الثروة الحيوانية التى كانت تدخل من السودان عن طريق منفذى حدربة وسهين توقفت تماماً، واقتصر دخولها من جهة أسوان، دون أسباب واضحة، رغم أن مدينتنا بها محجر طبى كبير»، مطالباً بضرورة عودة استيراد الأبقار عبر منفذى المثلث، بدعوى أن ذلك قد يعيد الرواج التجارى لأبنائه.
«كيف تعود المدينة لسابق عهدها التجارى..؟».. سؤال وجهته للحضور لأستطلع رؤاهم حول مستقبل مدينتهم، فجاءت الإجابة سريعة ومنمقة من الحاج محمود خزام- الذى انضم لجلستنا فى منتصفها- قائلاً: «أولاً يجب إعادة فتح باب التبادل التجارى مرة أخرى، أو الإفصاح عن سبب إغلاقه وتوفير البديل، وثانياً توجد فى أبورماد ميناء طبيعى كانت تعمل أيام شركة التعدين، فإذا تم استخدام هذه الميناء تجارياً، ستصبح الميناء الوحيدة المفتوحة على أفريقيا، وستوازى فى أهميتها ميناء دبى العالمية، لأنها ستخلق رواجاً تجارياً كبيراً بين مصر والدول الأفريقية، وفى أسوأ الأحوال ستدفع الناس للعمل فى الصيد وتجارة الأسماك».
حينما غادرت المقهى، تردد على ذهنى سؤال أصابنى عدم الحصول على إجابة له بصداع، وهو إذا كانت كل سبل العيش هنا مغلقة، وإذا كانت البطالة هى الراعى الرئيسى للسكان.. فكيف يعيشون، ومن أين ينفقون، وفيم يشغلون أوقاتهم..؟
خلف القناوى، مسؤول النزل الذى كنت أقيم فيه، أول من وجهت له ذلك السؤال، فقال :«رغم أنى لست من أبناء هذا المثلث، لكنى أعيش هنا منذ أكثر من ١٥ عاماً، وعاشرت كل الناس ورأيتهم يعيشون أزهى فترات حياتهم وقت الرواج التجارى، لكن بعد إنشاء الجمرك، والخسائر التى نتجت عنه، هجر الناس التجارة، ولجأوا لمهن غير مشروعة كتهريب الأسلحة والمخدرات والأفارقة الراغبين فى الذهاب لإسرائيل، إضافة إلى التنقيب عن الذهب فى جبال العلاقى».
على بعد ١٣٠ كيلو متراً من مدينة الشلاتين تجد مدينة أبورماد، حيث سوق الجمال الجديد وبعض القرى المتناثرة، هناك التقيت عدداً من مشايخ القبائل وأبنائها الذين تحدث جميعهم عن سوء الأحوال الاقتصادية وندرة الجانب الخدمى، خاصة فيما يتعلق بتوفير مياه الشرب والكهرباء وشبكة الاتصالات، وتجاهل الدولة لهم، واتهامهم بالانتماء للسودان، وهى نفس معاناة سكان الشلاتين.
أحمد سر الختم، أحد أبناء المدينة يقول: «نعانى الأمرين للحصول على المخصصات التموينية، كما أن تجارتنا لم تعد، كسابق عهدها، بسبب المشاكل مع السودان، فأصبح الفقر يلازمنا، وبات بعضنا يعيش على معاش الضمان الاجتماعى، فى حين لجأ آخرون إلى الطرق غير المشروعة لكسب قوت يومهم».
وعن حالة التعليم ومدى الإقبال عليه، أضاف الشيخ حامد: «الدولة تمنح أبناءنا فى المدارس خمسة جنيهات يومياً كمصروف جيب، لتشجيعهم على التعليم، وهذا دفع بعض أولياء الأمور لإجبار أبنائهم على الذهاب للمدارس من أجل الجنيهات الخمسة، خاصة فى ظل سوء الأوضاع الاقتصادية، كما جعلهم أكثر حرصاً على الإنجاب لما فى ذلك من مكسب يومى، لكن غالبيتنا حريصون كل الحرص على أن يكمل الأولاد تعليمهم، لأننا نؤمن بأنهم سيكونون صوتنا المسموع لدى أجهزة الدولة فى المستقبل». لا صوت يعلو فوق صوت معركة الانتماء فى حلايب، فبمجرد أن وطأت قدماى هذه المدينة، وكل من التقيه يعطى الأولوية فى حديثه لمسألة الانتماء لمصر، وهى ظاهرة فسرها لى الشيخ حسن هدل، شيخ مشايخ البشارية بحلايب ورأس حدربة، قائلاً: «الانتماء للأرض أكثر الملفات الشائكة التى نعانيها فى هذه المدينة منذ التسعينات، فنحن ننتمى لهذه الرقعة أياً كانت الدولة التى تؤويها»، مشدداً على أن جميع أبناء حلايب الذين يصل عددهم نحو٨٠٠ أسرة، مصريون ويتمتعون مثل أى مصرى بنفس الحقوق والواجبات، ومعرباً عن رفضه أى محاولات من الجانب السودانى لاختلاق مشكلات حول مصرية حلايب.
والتقط الدكتور مسعد سلطان، موظف بمحمية جبل علبة، أطراف الحديث قائلاً: «لابد أيضاً من دراسة الخريطة التعدينية فى حلايب وشلاتين، فهناك دراسات أجرتها جامعتا أسيوط وجنوب الوادى حول ثروات هذه المنطقة، والتى يجب الاستفادة منها». وأضاف «سلطان»: «طالما تحدثنا عن تصحيح المسار، فيجب التصدى لظاهرة الصيد الجائر للحيوانات البرية، التى تمثل ثروة طبيعية لا تقدر بثمن، ففى العهد البائد كان المثلث بمحمياته مرتعاً للأثرياء العرب وغيرهم من الذين يمارسون هواية الصيد، دون أدنى قيود، رغم أنهم يغتالون ثرواتنا الطبيعية». قبل مغادرتى مثلث حلايب، توجهت بزيارة خاطفة لقرية الصيادين فى الشلاتين، وهى زيارة وجدت فيها فرصة لأشتم هواء البحر العليل وأتمتع بصورته البكر، وهناك التقيت بعض الصيادين، جميعهم كانوا من أبناء محافظات الوجه البحرى، والذين أجمعوا على أن أبرز المشاكل التى يعانون منها هى حظر الصيد لمدة ٣ شهورهى «يونيو ويوليو وأغسطس»، مؤكدين أن هذا القرار يؤثر على حياتهم، خاصة أنهم ملتزمون بسداد أقساط مراكبهم.
عشش سكنية فى حلايب
تحقيق أشرف جمال