عندما جلسنا إليه لم يكن هو المستشار ماهر الجندي محافظ الجيزة الأسبق الذي نعرفه, ذلك الرجل القوي الذي تخرج في مدرسة القضاء المصري الشامخ وتدرج في السلك القضائي ليرتقي إلي أعلي المناصب
ويتم تعيينه بعدها محافظا لكفر الشيخ عام1991 ثم الغربية وأخيرا الجيزة في عام1997. بل كان رجلا تبدو علي ملامحه علامات السنين رجل هزمه المرض ومن قبله الظلم الذي تعرض له من رءوس نظام بائد.
ذهبنا إليه وقد خرج لتوه من المستشفي الذي يعالج به, وتقابلنا في منزله الذي لا يملك من حطام الدنيا غيره, وكان يجلس علي كرسيه لا يستطيع حتي الوقوف بعد أن كان يقف شامخا في ساحات المحاكم كواحد من جهابذة المرافعات في مصر.
لم يكن الحديث مع المستشار ماهر الجندي هذة المرة حول قضيته الشهيرة التي واجه فيها اتهاما بالرشوة, وصدر الحكم ضده بالسجن7 سنوات قضي منها63 شهرا خلف القضبان, وكان يردد ولا يزال أنه أشهر مظلوم في عهد النظام السابق, وإنما تحدثنا إليه لأنه كان واحدا من النظام السابق وهو نفسه النظام الذي قدمه علي طبق من فضة إلي المحاكمة و لم يكن الرجل يستطيع أن يبوح بالأسرار والخفايا إلا في هذا التوقيت, بعد نجاح ثورة25 يناير التي فضحت خبايا نظام ظل ينهش في جسد مصر لأكثر من30 عاما.
في البداية أراد الجندي أن يؤكد علي براءته, فهي الحلم الوحيد الذي يراوده باستمرار حتي في أوقات نومه, وتمني كثيرا أن يأتي يوم تظهر فيه الحقيقة التي لم تكن لتخرج إلي النور إلا مع زوال النظام, وكما قالها كمال الشاذلي: قدمنا وزيرا ومحافظا للمحاكمة فكان الوزير محيي الدين الغريب وزير المالية الأسبق وماهر الجندي محافظ الجيزة الأسبق في قائمة تقديم كباش الفداء.
بعد أن سقط النظام البائد إلي غير رجعة وكان وراء دخولي السجن ليضفي علي نفسه النزاهة والشرف والنقاء الزائف, أعددت التماسا بإعادة النظرفي القضية الظالمة التي لوثت سمعتي, ليس لإلغاء الحكم الصادر ضدي لكن لإثبات براءتي أمام الرأي العام وأمام أسرتي وزملائي في الهيئة القضائية فكنت أخشي من تقديم هذا الالتماس في ظل النظام السابق لأنني كنت علي ثقة يقينية من المصادرة علي حقوقي المشروعة.
بهذه الكلمات بدأ المستشار ماهر الجندي يفتح خزينة أسراره التي لم يبح بها قبل الثورة مفجرا مفاجأة أنه عندما كان محافظا للجيزة لم يستطع طوال فترة توليه منصبه أن يقابل الرئيس ولو لمرة واحدة, فهو كان ممنوعا مثل غيره من بعض المسئولين في الدولة من مقابلة رئيس الجمهورية والسبب وراء ذلك كما يقول الجندي: لم يكن يستطيع أي مسئول مقابلة الرئيس إلا بإذن من زكريا عزمي رئيس الديوان فهو كان الرجل الأول في نظام مبارك, ويمثل حلقة الوصل بين الرئيس وأي مسئول في الدولة مهما علت قامته, ولك أن تتخيل أنني طلبت مقابلة الرئيس بصفتي محافظا للجيزة وأرسلت طلبا لزكريا عزمي أطلب فيه تحديد موعد للقاء الرئيس ولم اتلق الرد علي طلبي, وكانت الأوامر تأتي من رئيس الديوان متحدثا باسم الرئيس, لذلك لم يكن أحد يجرؤ علي مخالفة الأوامر إلا وانصب عليه غضب الرجل الأول الذي لعب دور الشيطان في الرئاسة واستولي علي أذن الرئيس, فأصبح زكريا عزمي الحاكم بأمره في مؤسسة الرئاسة, وأتذكر أنه قبل خروجي من السجن بيوم واحد زارني المستشار مرتضي منصور الذي كان معي في نفس السجن وخرج قبلي بأسبوع, وفي الزيارة أبلغني بأن الرئيس حدثه هاتفيا وسأل عني خلال المكالمة فرد عليه مرتضي قائلا: ماهر مظلوم يا ريس فأكد له الرئيس أنه سيقابلني بعد الإفراج عني, لكن بعد خروجي من السجن انتظرت أن يرسل لي الرئيس ولم يحدث وعلمت أن زكريا عزمي قال له معقول يا ريس هتقابل واحد خارج من السجن في قضية رشوة وأكد له أن مقابلتي ستفتح الباب أمام آخرين لطلب مقابلة الرئيس.
ويضيف: كانت هناك شلة من الفاسدين تحيط بالرئيس السابق وتحول دون وصول أحد إليه, وهم كانوا الأذن التي يسمع بها واللسان الذي يتحدث به, فبعد إتهامي في قضية الرشوة حاولت مقابلة الرئيس لشرح موقفي لكن الشلة المحيطه به منعوني من مقابلته, وأبلغوه أنني متورط في القضية وأن مجرد مقابلتي تعد شبهه, ولم يكلف الرئيس نفسه للسؤال عني أوالأستفسار مني عن الاتهامات الموجهه لي وأنا كنت واحدا من النظام السابق.
يصمت المستشار الجندي للحظات ثم يكمل حديثه والكلمات تتحشرج في حلقه قائلا: جاءني رسول من مكتب السكرتير الخاص لمبارك وكان يحمل رسالة مفادها أن الرئيس عندما سمع بالاتهامات الموجهه لي قال بالحرف الواحد ده كلام فارغ وتوقعت أن يحدثني الرئيس لكن اكتشفت أن الشلة نفسها هي التي تتحكم في قرارات وتصرفات الرئيس.
وكل الناس تعلم من هي شلة الرئيس وأفراد العصابة التي كانت تحيط به ومنهم زكريا عزمي وصفوت الشريف وزوجته سوزان وابنه جمال والمرحوم كمال الشاذلي ومن بعده أحمد عز ليكمل المسيرة, وتمكنوا جميعا من عزل الرئيس عن الشعب منذ سنوات طويلة, وكل واحد من هؤلاء لعب دورا في إسقاط النظام ووصول الأحوال في مصر إلي حد الانفجار, فكان صفوت الشريف يلعب دور الرجل الثاني بعد زكريا عزمي في نظام حسني مبارك, وكان يتميز بالدهاء والمكر لكونه رجل مخابرات سابق وتم عزله في قضية إنحراف المخابرات الشهيرة, وبعدها سعي للحصول علي وظيفة فتم تعيينه مدير إدارة في هيئة الاستعلامات وظل ينبش حتي أصبح رئيسا للهيئة وبعدها قفز إلي منصب وزير الإعلام لأنه يستطيع أن يقلب الحقائق لصالحه وكان معروفا عنه ذلك ولهذا تولي منصب رئيس مجلس الشوري والأمين العام للحزب الوطني وكان يحرك كل من حوله مثل العرائس, حتي أنه تبني حملة التشهير بسمعتي في الصحف لكونه رئيس المجلس الأعلي للصحافة سابقا وأمر بعض رؤساء التحرير بنشر وقائع كاذبة ضدي دون سند أو دليل رغم أنني كنت أحاول دائما الابتعاد عنه لاتقاء شره ولأنني لم أكن ارتاح إليه.
أما سوزان مبارك سيدة مصر الأولي كما كان يروق لها أن يلقبها الناس, كانت تتدخل في شئون الحكم تدخلا سافرا, وتتحكم في مصائر كبار المسئولين بالدولة, وبكلمة منها للرئيس كانت تقيل وزيرا من منصبه وتأتي بآخر, وهي من جاءت بوزير الإعلام السابق أنس الفقي إلي منصبه, وأقنعت مبارك بالبقاء علي فاروق حسني وزيرا للثقافة رغم سخط الرأي العام عليه, في الوقت الذي أطاحت فيه بالوزير إسماعيل سلام وزير الصحة الأسبق, وأنا شخصيا طالني غضب سوزان مبارك عندما تجاوزت الخط الأحمر كما كانوا يرددون وهي منطقة الرئيس وحرمه, فقد وصلت وشاية إلي حرم الرئيس بأنني متضرر من زياراتها لمكتبات الجيزة والتي تم افتتاحها أثناء فترة عملي محافظا, وكانت هي تشرف عليها وطلبت مني تطوير3 مكتبات عن طريق تبرعات رجال الأعمال وجمعنا12 مليون جنيه وتسلمت سوزان مبارك شيكا بمبلغ مليون جنيه من التبرعات لشراء كتب في مكتبات أخري وتم صرف باقي المبلغ علي تطوير المكتبات الثلاثة, وفي يوم الافتتاح دعوت رجال الأعمال المتبرعين للقاء حرم الرئيس وتوجيه الشكر لهم, لكنها لم توجه لهم الشكر وبررت لهم ذلك بأنها مشغولة في الافتتاح, وبعدها سرت شائعة بأنني متضرر من زياراتها المتكرره لتفقد المكتبات وتعطيل حركة المرور بالمحافظة, وعلمت أن حرم الرئيس صبت غضبها علي, ولم تطل فترة عملي محافظا للجيزة حتي اتهمت زورا في القضية.
وكنت أعلم من داخل المطبخ السياسي أنها تسعي لتوريث الحكم حتي تصبح الملكة الأم وكأننا في عصر الملكية و تظل صاحبة المقام الرفيع, رغم أن جمال مبارك كان وجها غير مقبول لدي الشعب المصري, وكان الإجماع عليه بأنه شخصية مرفوضة لأنه لا يملك أي مؤهلات للصعود إلي سدة الحكم سوي انه ابن الرئيس, فلم يكن يتمتع بكاريزما أو محك دولي علي المستوي الرسمي بل كان يذهب لمقابلة الأمريكان سرا.
ويؤكد محافظ الجيزة الأسبق أنه لم يستفد من موقعه السابق مثل باقي الوزراء والمحافظين في النظام السابق وقال: كل الشلة استفادت من حسني مبارك ونهبوا ثروات مصر بمعرفة الرئيس واستولوا علي أراضي الدولة وحصلوا علي الفلل في أرقي المناطق من خلال شرائها بثمن بخس وبالتقسيط من بنك التعمير والاسكان وبيعها بأسعار باهظة وشراء بثمنها فيلا أخري وتبقي حاجة ببلاش كده لكني رفضت أن أفعل مثلهم واستغل نفوذي كمحافظ, ولا أملك سوي الشقة التي أقيم فيها بمصر الجديدة, والله وحده يعلم من أين أصرف علي نفقات علاجي؟!
وأثناء عملي كمحافظ للجيزة كنت أراعي الله وضميري وتطبيق القوانين في جميع قراراتي, وحاربت كبار المسئولين في الدولة برفض حصولهم علي مميزات ليست من حقهم, وهو ما وضعني في قائمة المغضوب عليهم من النظام السابق, واذكر أنني رفضت طلبا لرئيس ديوان رئيس الجهورية عندما أرسل سيدة إلي مكتبي تطلب تسوية نزاع علي قطعة أرض بطريق مصر إسكندرية الصحراوي وأدعت أنها مالكة هذه الأرض, إلا أنني اكتشفت أنها مملوكة لأخرين فرفضت طلبها مما اغضب زكريا عزمي بشدة وشعر بالصدمة لأنه تعود اذا طلب شيئا من أحد مهما كان منصبه في الدولة فانه يقول له شبيك لبيك وبعدها كان يعطيني ظهره في أي مناسبة تجمعنا.
كما رفضت طلب وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بالترخيص له ببناء أتيليه لعرض لوحاته الفنية علي قطعة أرض زراعية يحظر البناء عليها بإحدي مناطق الجيزة وهو ما أثار غضب فاروق حسني ووقف ضدي في مواقف كثيرة منها إقامة مسلة في ميدان الرماية, واتفقت مع الفنان طارق الكومي علي تصميم المسلة وبالفعل صممها علي أعلي مستوي ومن مواد تتحمل عوامل التعرية لمدة400 سنه, وبعد إقامتها بالميدان بحوالي5 أسابيع فؤجئت برئيس الوزراء وقتها كمال الجنزوري يحدثني ويطلب مني إزالة المسلة من الميدان واندهشت لهذا الطلب وعندما سألته عن السبب قال لي إنها تسبب إزعاجا للرئيس وأن ذلك أوامر منه شخصيا, واضطررت إلي إزالتها, وعلمت بعد ذلك أن فاروق حسني وزير الثقافة اشتكي للرئيس وقال له أن ماهر الجندي صمم مسلة من الجبس وشوه الميدان فأمر الرئيس بإزالتها فورا دون أن يتأكد من صحة هذا الكلام.
أما ابن المرحوم كمال الشاذلي فكان قدم لي طلبا للحصول قطعة أرض علي مسطح النيل بمنطقة العجوزة وإنشاء مطعم عائم عليها مع شريك عربي بتكلفة16 مليون جنيه, وعندما سألته عن حصته في المشروع أكد لي أنها قطعة الأرض فقط, وطلب مني عدم إضاعة هذه الفرصة عليه, فأبلغته أن تلك الأرض تخضع لولاية أحد الوزراء, وفوجئت به في اليوم التالي يحضر ومعه موافقة الوزير المختص, ورغم ذلك أرسلت الطلب لرئيس مدينة الجيزة للفحص, فحدثني هاتفيا والده كمال الشاذلي وقال لي: كده يا ماهر؟, وصراحة كنت أريد تعطيل هذه الصفقة بشتي الطرق.
ويقول: لم افكر في الانضمام للحزب الوطني بعد ترك العمل في سلك القضاء لأنه كان حزب المنافقين والمصفقين للرئيس ولم يكن يمثل إرادة الشعب المصري وأنما يمثل أصحاب المصالح فقط ودولة شلة الحكم.
كنت أدعو الله مع كل صباح أن أري يوما في هذا النظام الفاسد الذي أهدر كرامة الناس واغتصب حريتهم, وكنت لا أملك سوي الدعاء بـ حسبي الله ونعم الوكيل, وعندما قامت الثورة وسقط نظام مبارك سجدت لله شكرا وتمنيت أن يذوق كل واحد في شلة الحكم مرارة السجن التي عشتها.