٧/ ٤/ ٢٠١١
ناقش كثير من الباحثين والخبراء فى أوروبا والولايات المتحدة الثورة المصرية، وطرحوا تساؤلات كثيرة حول طبيعتها ومستقبلها، وقارنوا بينها وبين كثير من الثورات وحركات التغيير التى شهدتها بلدان أخرى. وقد شاركت مؤخرا فى ندوات حول الثورة المصرية فى ثلاثة أماكن من العالم، الأولى كانت عبارة عن محاضرة ألقيتها فى «البيت العربى» بالعاصمة الإسبانية مدريد ودهشت من أن الحضور فاق ٤٠٠ شخص، واستمعت فيه لتساؤلات كانت الأفضل فى كل ما سمعته فى أوروبا على مدار شهرين حول ما يجرى فى مصر، فتراجع الحديث عن «الفزاعة الإسلامية» رغم حضور تساؤلات موضوعية وأحيانا مخاوف تتعلق بإمكانية دمج هذه التيارات وتحديدا الإخوان فى العملية الديمقراطية، كما طرحت أسئلة أكثر عن الجيش، وما إذا كان ينوى البقاء فى السلطة أم سيغادرها؟ واتضح تأثير دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية على طريقة فهم كثير من الحضور حين نظروا إلى الجيش وكأنه امتداد لخبرة أمريكا اللاتينية، وهو أمر لا علاقة له بالواقع المصرى.
وقد حضر عدد كبير من السفراء العرب (باستثناء دول الخليج) هذا اللقاء، ومنهم سفيرنا المصرى اللامع أيمن عز الدين، وعدد كبير من السفراء الذين ينتمون إلى بلاد لا تحب أن ترى التجربة المصرية تتكرر مرة أخرى فى بلادهم (وإن همس بعضهم فى أذنى بعكس ذلك)، وأبدى الجميع اهتماماً كبيراً بيوميات الثورة المصرية التى عاشها الجميع دقيقة بدقيقة، وهو ما أكدته لى مديرة المركز الدكتورة «خيمة مارتنيوس» حين قالت: إن الحضور فى الندوات المشابهة قبل الثورة كان لا يزيد على ٤٠ أو ٥٠ شخصا على الأكثر.
أما الندوتان الأخريان فكانت الأولى فى جامعة لوزان بسويسرا وقدمت فيها مداخلة مع أحد كبار أساتذة العلوم السياسية الفرنسيين وهو ميشيل كامو، والمتخصص فى الشؤون التونسية، والثانية كانت منذ أيام فى بروكسيل ونظمتها المؤسسة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان وشارك فيها الأستاذ بهى الدين حسن رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والباحثة بالمركز سالى سامى، ود. مجدى عبدالحميد، رئيس الجمعية المصرية للمشاركة المجتمعية، وكل من عمرو صلاح وزياد العليمى وسالى توما من ائتلاف شباب الثورة.
وتكرر فى هذه الندوة ما سبق أن دار فى جامعة لوزان على يد بعض أساتذة العلوم السياسية الفرنسيين، حين تحفظوا على إطلاق لفظ ثورة على ما جرى فى مصر، على عكس ما قالته الباحثة الأمريكية المعروفة ميشيل دان (Michele Dunne) التى اعتبرت فى ورقتها المميزة أن ما جرى فى مصر ثورة ( وهو بديهى).
و«دان» هى كبيرة باحثين بمعهد كارنيجى للسلام، وهى من الباحثين الذين عرفوا قبل الثورة «بمجموعة مصر» وأخرجوا أبحاثاً وتوصيات منصفة للوضع الداخلى، وانتقدت الانتخابات التشريعية الكارثية التى شهدتها البلاد، وتعرضت بسببها لهجوم عنيف من قبل مندوبى النظام السابق.
ونعود إلى السؤال الأصلى، لماذا اختار جانب كبير من الأكاديميين الفرنسيين والأوروبيين عدم وصف الثورة المصرية بالثورة؟ الحقيقة أن تفسيرى الذى قلته فى هذه الندوة هو أن الأمر يعود إلى «المركزية الأوروبية» فى قراءة الذات والآخر، وهى تعتبر أن مسار الثورة الفرنسية هو المسطرة التى يقاس عليها باقى الثورات الأخرى، وعلى أساسها تقيم ما إذا كانت ثورة أم لا، ولم تعتبر هذه النظرة ما جرى فى مصر ثورة لأنها لم تهدم كل أركان المؤسسات القديمة، ولم تستأصل كل من عمل مع النظام السابق، ولم تضع المقاصل فى شوارع مصر (الثورة الإيرانية مثلا أعدمت ٦٠ ألف شخص كانوا جزءاً من النظام القديم)، ولم تبن نظاماً يفترض أن يكون أشخاصه منبتى الصلة بالنظام القديم (وهو طبيعى)، ولكن أيضا تهدم مؤسسات الدولة على اعتبار أنها جزء من النظام القديم.
والحقيقة أن المركزية الأوروبية لا تكمن فقط فى اعتماد الثورة الفرنسية كمسطرة (غير أمينة وغير دقيقة) تقاس عليها تجارب التغيير فى المجتمعات الأخرى، إنما فى هذا التناقض الكبير فى طريقة التعامل مع ما روج له الإعلام الفرنسى على أنه ثورات فى أوروبا الشرقية وكان فى معظمه ترتيبات أعدتها دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة لعالم ما بعد الحرب الباردة، وبين موجة الثورات العربية التى حرصت كثير من مؤسسات صنع القرار فى الغرب على التقليل من شأنها، تماما مثلما جرى من قبل مع تجارب كثير من بلدان أمريكا اللاتينية.
وهنا يمكن أن نشير إلى ٤ نماذج لثورات استئصالية كبرى فى تاريخ البشرية مثلت استثناء من تجارب التغيير التى شهدها العالم ومنها مصر (وهى الثورة الفرنسية، والثورة الشيوعية فى روسيا، والثورة الصينية، وأخيرا الثورة الإيرانية).
والحقيقة أن نموذج الثورات التى تفكك أركان الدولة القديمة هو الاستثناء فى تاريخ تجارب التغيير فى العالم كله، فإسبانيا والبرتغال تحولا دون ثورة (وهذا ربما سر انبهارهما الشديد بالثورة المصرية لأنها غيرت النظام القديم بثورة ولم تنتظر موت الديكتاتور كما جرى مع فرانكو فى إسبانيا)، وكذلك تجارب أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية التى تغيرت فى الأولى بترتيبات أو ببعض الاحتجاجات، وفى الثانية بانتفاضات شعبية واسعة.
لا يجب أن يتصور أحد أن مصر لم تصنع ثورة كبرى فى تاريخ البشرية لأنها لم تعين محكمة ثورة بدلا من القضاء المصرى تحاكم بها رموز النظام السابق، أو لأن قادة الجيش عينهم حسنى مبارك، فنرتاب فى قدرات مؤسسة مهنية كبرى بحجم الجيش، أو لأنها لم تفصل سفراء وزارة الخارجية لأن من وقع مرسوم ترقيتهم هو الرئيس المخلوع.
إن نقطة البداية التى انطلقت منها الثورة المصرية تضعها فى قلب تجارب النجاح التى شهدها العالم، لأنها و«الحمد لله» ابتعدت عن مسطرة الثورة الفرنسية أو الروسية أو الإيرانية أو الصينية التى فككت مؤسسات الدولة، وبعضها انهار كما جرى مع التجربة الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى، أو لم يجلب الديمقراطية مثل الثورة الإيرانية (على عظمتها) وبقيت الثورة المصرية نموذجاً يدرس فى سلميتها ونجاحها فى تحقيق أول أهدافها المتمثل فى إسقاط رؤوس النظام القديم، وهو أمر فى حد ذاته يعد ثورة بامتياز، بصرف النظر عن نجاح مسار البناء أو تعثره فهو أمر لا يلغى كونها ثورة.
إن التحدى الذى ستواجهه مصر يتمثل فى وجود داعم مؤسسى لمرحلة بناء النظام الجديد، فتجارب أوروبا الشرقية كان الداعم لهذا البناء هو الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، وفى أمريكا اللاتينية كان هو نقطة التوازن بين النظام العسكرى القديم والشعب، أما مصر فلا بديل عن دور المؤسسة العسكرية كمؤسسة أفلتت من التخريب الذى جرى فى عهد مبارك من أجل تأمين عملية الانتقال الديمقراطى، لأن الجميع سيتفرج علينا فى حال النجاح (الذى لن يحرص عليه الكثيرون)، والفشل (الذى سيفرح به الكثيرون) ولا مناص من استمرار هذا التزاوج بين الشعب الذى صنع الثورة والجيش الذى حماها.
ناقش كثير من الباحثين والخبراء فى أوروبا والولايات المتحدة الثورة المصرية، وطرحوا تساؤلات كثيرة حول طبيعتها ومستقبلها، وقارنوا بينها وبين كثير من الثورات وحركات التغيير التى شهدتها بلدان أخرى. وقد شاركت مؤخرا فى ندوات حول الثورة المصرية فى ثلاثة أماكن من العالم، الأولى كانت عبارة عن محاضرة ألقيتها فى «البيت العربى» بالعاصمة الإسبانية مدريد ودهشت من أن الحضور فاق ٤٠٠ شخص، واستمعت فيه لتساؤلات كانت الأفضل فى كل ما سمعته فى أوروبا على مدار شهرين حول ما يجرى فى مصر، فتراجع الحديث عن «الفزاعة الإسلامية» رغم حضور تساؤلات موضوعية وأحيانا مخاوف تتعلق بإمكانية دمج هذه التيارات وتحديدا الإخوان فى العملية الديمقراطية، كما طرحت أسئلة أكثر عن الجيش، وما إذا كان ينوى البقاء فى السلطة أم سيغادرها؟ واتضح تأثير دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية على طريقة فهم كثير من الحضور حين نظروا إلى الجيش وكأنه امتداد لخبرة أمريكا اللاتينية، وهو أمر لا علاقة له بالواقع المصرى.
وقد حضر عدد كبير من السفراء العرب (باستثناء دول الخليج) هذا اللقاء، ومنهم سفيرنا المصرى اللامع أيمن عز الدين، وعدد كبير من السفراء الذين ينتمون إلى بلاد لا تحب أن ترى التجربة المصرية تتكرر مرة أخرى فى بلادهم (وإن همس بعضهم فى أذنى بعكس ذلك)، وأبدى الجميع اهتماماً كبيراً بيوميات الثورة المصرية التى عاشها الجميع دقيقة بدقيقة، وهو ما أكدته لى مديرة المركز الدكتورة «خيمة مارتنيوس» حين قالت: إن الحضور فى الندوات المشابهة قبل الثورة كان لا يزيد على ٤٠ أو ٥٠ شخصا على الأكثر.
أما الندوتان الأخريان فكانت الأولى فى جامعة لوزان بسويسرا وقدمت فيها مداخلة مع أحد كبار أساتذة العلوم السياسية الفرنسيين وهو ميشيل كامو، والمتخصص فى الشؤون التونسية، والثانية كانت منذ أيام فى بروكسيل ونظمتها المؤسسة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان وشارك فيها الأستاذ بهى الدين حسن رئيس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والباحثة بالمركز سالى سامى، ود. مجدى عبدالحميد، رئيس الجمعية المصرية للمشاركة المجتمعية، وكل من عمرو صلاح وزياد العليمى وسالى توما من ائتلاف شباب الثورة.
وتكرر فى هذه الندوة ما سبق أن دار فى جامعة لوزان على يد بعض أساتذة العلوم السياسية الفرنسيين، حين تحفظوا على إطلاق لفظ ثورة على ما جرى فى مصر، على عكس ما قالته الباحثة الأمريكية المعروفة ميشيل دان (Michele Dunne) التى اعتبرت فى ورقتها المميزة أن ما جرى فى مصر ثورة ( وهو بديهى).
و«دان» هى كبيرة باحثين بمعهد كارنيجى للسلام، وهى من الباحثين الذين عرفوا قبل الثورة «بمجموعة مصر» وأخرجوا أبحاثاً وتوصيات منصفة للوضع الداخلى، وانتقدت الانتخابات التشريعية الكارثية التى شهدتها البلاد، وتعرضت بسببها لهجوم عنيف من قبل مندوبى النظام السابق.
ونعود إلى السؤال الأصلى، لماذا اختار جانب كبير من الأكاديميين الفرنسيين والأوروبيين عدم وصف الثورة المصرية بالثورة؟ الحقيقة أن تفسيرى الذى قلته فى هذه الندوة هو أن الأمر يعود إلى «المركزية الأوروبية» فى قراءة الذات والآخر، وهى تعتبر أن مسار الثورة الفرنسية هو المسطرة التى يقاس عليها باقى الثورات الأخرى، وعلى أساسها تقيم ما إذا كانت ثورة أم لا، ولم تعتبر هذه النظرة ما جرى فى مصر ثورة لأنها لم تهدم كل أركان المؤسسات القديمة، ولم تستأصل كل من عمل مع النظام السابق، ولم تضع المقاصل فى شوارع مصر (الثورة الإيرانية مثلا أعدمت ٦٠ ألف شخص كانوا جزءاً من النظام القديم)، ولم تبن نظاماً يفترض أن يكون أشخاصه منبتى الصلة بالنظام القديم (وهو طبيعى)، ولكن أيضا تهدم مؤسسات الدولة على اعتبار أنها جزء من النظام القديم.
والحقيقة أن المركزية الأوروبية لا تكمن فقط فى اعتماد الثورة الفرنسية كمسطرة (غير أمينة وغير دقيقة) تقاس عليها تجارب التغيير فى المجتمعات الأخرى، إنما فى هذا التناقض الكبير فى طريقة التعامل مع ما روج له الإعلام الفرنسى على أنه ثورات فى أوروبا الشرقية وكان فى معظمه ترتيبات أعدتها دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة لعالم ما بعد الحرب الباردة، وبين موجة الثورات العربية التى حرصت كثير من مؤسسات صنع القرار فى الغرب على التقليل من شأنها، تماما مثلما جرى من قبل مع تجارب كثير من بلدان أمريكا اللاتينية.
وهنا يمكن أن نشير إلى ٤ نماذج لثورات استئصالية كبرى فى تاريخ البشرية مثلت استثناء من تجارب التغيير التى شهدها العالم ومنها مصر (وهى الثورة الفرنسية، والثورة الشيوعية فى روسيا، والثورة الصينية، وأخيرا الثورة الإيرانية).
والحقيقة أن نموذج الثورات التى تفكك أركان الدولة القديمة هو الاستثناء فى تاريخ تجارب التغيير فى العالم كله، فإسبانيا والبرتغال تحولا دون ثورة (وهذا ربما سر انبهارهما الشديد بالثورة المصرية لأنها غيرت النظام القديم بثورة ولم تنتظر موت الديكتاتور كما جرى مع فرانكو فى إسبانيا)، وكذلك تجارب أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية التى تغيرت فى الأولى بترتيبات أو ببعض الاحتجاجات، وفى الثانية بانتفاضات شعبية واسعة.
لا يجب أن يتصور أحد أن مصر لم تصنع ثورة كبرى فى تاريخ البشرية لأنها لم تعين محكمة ثورة بدلا من القضاء المصرى تحاكم بها رموز النظام السابق، أو لأن قادة الجيش عينهم حسنى مبارك، فنرتاب فى قدرات مؤسسة مهنية كبرى بحجم الجيش، أو لأنها لم تفصل سفراء وزارة الخارجية لأن من وقع مرسوم ترقيتهم هو الرئيس المخلوع.
إن نقطة البداية التى انطلقت منها الثورة المصرية تضعها فى قلب تجارب النجاح التى شهدها العالم، لأنها و«الحمد لله» ابتعدت عن مسطرة الثورة الفرنسية أو الروسية أو الإيرانية أو الصينية التى فككت مؤسسات الدولة، وبعضها انهار كما جرى مع التجربة الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى، أو لم يجلب الديمقراطية مثل الثورة الإيرانية (على عظمتها) وبقيت الثورة المصرية نموذجاً يدرس فى سلميتها ونجاحها فى تحقيق أول أهدافها المتمثل فى إسقاط رؤوس النظام القديم، وهو أمر فى حد ذاته يعد ثورة بامتياز، بصرف النظر عن نجاح مسار البناء أو تعثره فهو أمر لا يلغى كونها ثورة.
إن التحدى الذى ستواجهه مصر يتمثل فى وجود داعم مؤسسى لمرحلة بناء النظام الجديد، فتجارب أوروبا الشرقية كان الداعم لهذا البناء هو الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، وفى أمريكا اللاتينية كان هو نقطة التوازن بين النظام العسكرى القديم والشعب، أما مصر فلا بديل عن دور المؤسسة العسكرية كمؤسسة أفلتت من التخريب الذى جرى فى عهد مبارك من أجل تأمين عملية الانتقال الديمقراطى، لأن الجميع سيتفرج علينا فى حال النجاح (الذى لن يحرص عليه الكثيرون)، والفشل (الذى سيفرح به الكثيرون) ولا مناص من استمرار هذا التزاوج بين الشعب الذى صنع الثورة والجيش الذى حماها.