كتب نشوى الحوفى و هشام علام ومصطفى المرصفاوى ٢٥/ ١٢/ ٢٠١١
جانب من الاشتباكات
تقول القاعدة التى توارثناها عن أجدادنا إن العبرة بالخواتيم، لكن خواتيمنا كلها دم ودخان ونار وشهداء ومصابون ومولوتوف وحجارة، منذ اندلعت المواجهات التى نسبت إلى طرف ثالث يعرفه المجلس العسكرى ولا يريد الإفصاح عنه.. حدث هذا فى أحداث البالون ثم ماسبيرو ثم محمد محمود وربما ليس أخيرا مجلس الوزراء، ففى كل هذه المواجهات ظلت البداية لغزا مستعصيا على الفهم والحل.
عندما وقعت أحداث مجلس الوزراء وامتدت إلى شارعى الشيخ ريحان وقصر العينى، كان السؤال الذى يطرح نفسه ولا يجد إجابة: كيف اندلعت الشرارة الأولى؟ وحتى المشهد الختامى الذى انتهى بطن من الأسلاك الشائكة يحيط الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية، وحائط خرسانى يغلق شارع قصر العينى من جهة ميدان التحرير، ويفصل بين عالمين مختلفين متواجهين: ثوار غاضبون، وجنود غاضبون. «المصرى اليوم» اجتازت الجدار الفاصل بين العالمين، التقت الثوار والجنود. صحيح أن شهادات المعتصمين متداولة لكنها لم تجب أبدا عن سؤال البداية، أما جنود الجيش وقادته فى المنطقة الملتهبة فلم نسمع أبدا شهاداتهم ورؤيتهم لما جرى وكيف جرى؟.
الـــمـــشـــهــــد الأول
لم يكن عددهم فى الميدان كثيراً، بل كانوا متنأثرين فى التحرير وحول الحواجز المسلحة الخرسانية، يتشكلون فى جماعات ويتحدثون مع المارة الذين يستوقفونهم، البعض يسأل عما حدث وما سيحدث، والبعض الآخر يؤكد لهم أن مصر أهم وأكبر من الخلاف، وآخرون ينظرون إليهم ويتساءلون عما إذا كانوا بلطجية كما يتردد. تتوه وسط الحديث والناس، وتعجز عن متابعة ما يحدث إلى أن تجد شاهد عيان على ما حدث منذ فجر الجمعة ١٦ ديسمبر.
محمد كمال.. هذا هو اسمه، حينما سألنا عن شهود عيان لأحداث شارع مجلس الوزراء أشاروا إلى محمد الذى لا يتجاوز عمره ٢٥ سنة. عرفنا منه أنه كان أحد المعتصمين فى شارع مجلس الشعب. روايته عن الأحداث تنفى قصة الكرة التى دخلت مجلس الشعب ورواها الإعلام والمجلس العسكرى، وتؤكد حكاية الاحتكاك بالضابط كما رواها قائد المنطقة، ولكن بتفاصيل أخرى. يسرد محمد بداية الأحداث قائلاً: «كانت هناك سيارة وبها ضابط يرتدى ملابس مدنية تقف خارج مكان الاعتصام، اقترب منها عبودى وسأله عن سبب تواجده وكلمة من هنا وكلمة من هناك اشتبك الضابط وعبودى، فاتصل الضابط بالقوات المتواجدة فى شارع القصر العينى، فحضرت مجموعة فكت الاشتباك وأخذت عبودى معها. كان من الواضح لنا أن عبودى سيتعرض لموقف صعب، ولم يكن أمامنا سوى التجمهر والطرق على أعمدة الإنارة والهتاف ضد المجلس العسكرى ليطلقوا سراح زميلنا. وبالفعل أخرجه لنا الضابط ولكنه كان فى حالة يرثى لها والدماء تسيل على وجهه، ساد الغضب بيننا واشتعل الموقف.
يقول كمال: «أعتقد أن ما حدث كان متعمداً، فالجيش فى تلك المنطقة يرانا نأكل ونلعب كرة ونعزف على الجيتار وهو يقف أمامنا فى كامل استعداده وهيئته ونحن لا نبالى به. فقرر أن يفعل ما فعل لتصعيد الأحداث سعياً لفض الاعتصام الذى طال بالنسبة له.. وعقب خروج عبودى من احتجاز الجيش مضروباً والدماء تسيل على وجهه اشتعلت الأحداث ولم يعد أحد يفكر من المعتصمين سوى فى الثأر، فبدأوا فى إلقاء الطوب والحجارة على الجيش بعنف». ويضيف: «خلعنا حجارة الأرصفة ورخام السور المحيط بالمجلس.. كنا نشعر بالإهانة والغضب وألقيناها عليهم وهم ردوا بمثلها واستعانوا بقوات إضافية جاءت لتضرب معهم وأخرجونا من شارع مجلس الشعب لشارع قصر العينى، ورغم توافد المزيد من المتظاهرين علينا فإن العنف استمر من جانب الجيش. وبدأ الجنود فى ضربنا ومطاردتنا بالعصى والجرى خلفنا حتى تقاطع الشيخ ريحان مع قصر العينى. وفجأة شاهدنا أفرادا فوق المبانى الممتدة من مجلس الوزراء وحتى فوق المجمع العلمى، كانوا يلقون علينا كميات مجمعة من الطوب والرخام والحجارة وكان من يقع منا على الأرض تنقله الموتوسيكلات للمستشفى الميدانى عند عمر مكرم، دون أن نتساءل عما حدث له، هل أصيب أم مات. لم يكن لدينا وقت لفعل ذلك. ثم وجدنا أفراداً آخرين يمسكون بخراطيم مياه ضخمة فتحوها علينا من مكانهم فى الحديقة الملاصقة للمجمع العلمى فى الشيخ ريحان».
وبرؤية أفقية راحت نيرفانا سامى تروى القصة من زاوية مختلفة: صباح الجمعة ١٦ ديسمبر، استيقظت على صوت اشتباكات شديدة وصراخ فى شارع قصر العينى. كانت تقضى الليلة عند صديقة لها تسكن فى عقار مواجه لمجلس الوزراء، رأت المشهد كالتالى: المعتصمون ولم يكن عددهم يتجاوز ١٠٠ يهتفون ضد المجلس العسكرى، فجأة برز طفلان ما بين ١٢ و١٥ سنة، راحا يستفزان الضباط بحركات مبتذلة ويطلقون عليهم وابلا من السباب والشتائم، لحظات واختفيا عن الأنظار، وعلى الفور تحرك قرابة ٨ صفوف من الشرطة العسكرية ناحية المتظاهرين، وبدأوا يعصفون بهم دون تمييز، وكان الجنود يضربون فى الرأس، وفى كل أجزاء الجسم دون التفريق بين شاب وفتاة، واستمرت الاشتباكات طوال اليوم وبدأ إلقاء المولوتوف والحجارة على الجيش فى عمليات كر وفر بين الطرفين.
وصلت ماجى أسامة إلى منطقة الأحداث قرابة التاسعة صباحاً، وبحسب روايتها كان أفراد الجيش يقفون على سطح أحد مبانى مجلس الشعب، فوق لافتة تقول «الديمقراطية هى توكيد سيادة الشعب»، وكان معهم آخرون يرتدون ملابس مدنية، وكانوا يلقون أطباقاً وحجارة وزجاجاً مكسوراً، ثم رأيتهم يلقون «دولاب» علينا، فيما كان المتظاهرون يحاولون يأسا أن يبادلوهم الرشق بالحجارة، لكن المسافة كانت بعيدة.
وفى لحظات اختفى الأفراد الذين كانوا يرتدون الملابس المدنية من فوق المجلس، فتوقف الضرب، وكنت حينها مع الناشط نور أيمن نور، لكن المتظاهرين لم يتوقفوا عن إلقاء الحجارة على زجاج مجلس الشعب من ناحية شارع قصر العينى، وشاهدت حينها أحد المواطنين يقف داخل حديقة المجلس ويشعل زجاجة مولوتوف ويلقيها من النافذة، فيما كان البعض يحاول اقتحام سور الحديقة، وكسر القفل للدخول، وسعيت حينها مع بعض النشطاء لإقناع الناس بالتوقف عن هذا والعودة إلى الميدان لكنهم رفضوا وهاجمونا، وقالوا إن ما يفعلونه ليس فعلا بل هو رد فعل لانتهاكات الجيش، وظل الوضع مستمراً على هذا المنوال.
وهنا يتدخل نور أيمن نور: وصلت إلى مجلس الوزراء صباح الجمعة، وجدت الضباط والعساكر يلقون الحجارة من فوق المبنى الإدارى التابع لمجلس الشعب، وكان المتظاهرون أسفل المبنى يردون عليهم لكن الحجارة التى كانوا يلقونها كانت لا تصل، فيما كانت الإصابات تزيد والمستشفى الميدانى يمتلئ بالمصابين نتيجة كسر الرخام والأطباق والدواليب والكنب التى كان يتم إلقاؤها، كل هذا أشعل غضب الناس الذين استمروا فى اعتصامهم السلمى قرابة أسبوعين، التزموا فيه بكل قواعد الاعتصام والتظاهر السلمى والقانونى، ولم يمارسوا أى أعمال تخريبية، إلى أن بدأ مجموعة من الشباب فى ملء زجاجات المولوتوف وإلقائها على المبنى الإدارى الذى يقف فوقه جنود الجيش بعدما راحوا يستفزونهم بحركات خارجة، وحاولوا بالفعل كسر البوابة واقتحام المبنى، لكن الجيش عمل كماشة على المتظاهرين وبدأ فى سحلهم وضربهم وساعتها أنا أتقبض عليا ودخلت مجلس الشعب».
وتروى الطبيبة فريدة الحصى شهادتها على صفحتها الخاصة بموقع الفيس بوك: «عرفت أن فيه مستشفى ميدانى اتعملت عند السفارة الأمريكية وأنهم محتاجين دكاترة ومساعدات علشان فيه إصابات كتير بسبب الحاجات اللى الجيش بيحدفها من فوق، فقررت أنزل علشان أساعد. وصلت الساعة ١٠ صباحاً ومشيت ناحية شارع القصر، ووقفت شوية مع ناس بيتكلموا على اللى حصل وإن الجيش هو اللى ضرب عبودى. دخلت جوا وكان الطوب اللى بيتحدف من فوق المبانى من الجيش أكتر وشباب وأطفال كتير ما كانوش خايفين وبيحدفوا طوب على ضباط الجيش اللى واقفين فوق المبنى بس طبعا ما كانش بيوصل. كان فى ناس تانية بتحدف طوب تكسر شبابيك مبنى داخل مجلس الشعب، وكان فيه غرفة كهرباء كده طالع منها دخان بس مش عارفة مين اللى ولعها».
وتكمل فريدة: «العساكر فوق المبنى كان فيهم لابس بدلة ميرى وكان فيه عساكر، وكان فيه لابس مدنى وواحد لابس زى فانلة سودة كده. المهم كانوا بيستفزوا الناس بحركات قليلة الأدب فالناس كانت بتشتمهم وتهتف ضد المجلس العسكرى. وصلت ناحية المستشفى شفت الناس متجمعة ومنهم أسماء محفوظ بيحاولوا يقنعوا الناس ترجع على الميدان لأن عدد المصابين كتير وكفاية دم كده. وللأسف كان فيه ناس ابتدوا يولعوا فى الدور الأول لمجلس الشعب بعد ما فكوا السور الحديد وقدروا يدخلوا. المهم المعارضين لفكرة الرجوع إلى الميدان كانوا كتير وبعد كده الناس اللى بتهدى دى مشيت والجيش بطل ضرب من فوق وفوجئنا بهجوم قوات الجيش علينا، كانت قوات المظلات. كان فيه منهم ملثمين وكانوا معاهم عصيان سوداء كبيرة شبه السيف شوية أو الكرباج. وأنا باجرى لقيت سيدة عجوز يمكن أواخر الخمسينيات واقفة خايفة. رجعتلها وقلتلها أجرى قالتلى لا خلينا واقفين ما تخافيش قعدت أشدها وأقولها إجرى إجرى لحد ما عسكرى جرى ناحيتى وكان هيضربنى، الست رجعت لورا شوية وأنا كملت جرى ولقيت شوية عساكر سبقونى بيجروا ورا ناس تانية ساعتها عرفت إنهم هيمسكونى. وجه عسكرى ضربنى على ضهرى وقعت والتف عليا ٦ أو ٧ عساكر جيش قعدوا يضربوا فيا بالعصيان اللى معاهم والشلاليت وبأيديهم.
نور أيمن نور، كان بيجرى قدامى لما لقاهم اتلموا عليا رجعلى وقلهم دى بنت ما تضربوهاش فقعدوا يضربوه وبعدين مسكونا إحنا الاتنين وشدونى من شعرى وواحد كان مسكنى من شعرى والباقيين ماشيين معاه بيضربوا برضه زى ما يكونوا ما صدقوا مسكوا حد».
وتحكى فريدة «دخلت مبنى مجلس الشعب واعتدوا على بالضرب مرة تانية بالداخل وقعد يقولى الضابط انتوا فاكرين نفسكوا إيه فاكرين إنكم هاتكسرونا! إحنا أسيادكم! ماكنتش بأرد ولا بعيط فابتدا يحاول يتحرش بيا ساعتها زقيت إيده وقلت له يحترم نفسه! دخلونا مبنى كده ودخلنا فيه مكان فى ناس تانية زينا وضباط جيش كتير. قعدونا فى الأرض كان فيه واحد دماغه فيها جرح ووشه مليان دم وبيعيط جامد. طلبوا مننا البطايق إديتهم كارنية النقابة، لما عرفوا إنى دكتورة قعدوا يقولولى جايه تعالجى الثوار؟ بمنتهى الغل بس مارديتش عليهم علشان هما بيستفزونى.. بعد ما طلعونا قعدت على الرصيف، ناس كتير اتكلمت معايا وسألتنى على اللى حصل وقعدت تهدى فيا. قابلت ناس قالولى لازم أوثق الحالة فى مركز هشام مبارك أو النديم وأعمل محضر وفجأة الجيش هجم تانى علينا. أنا اتخضيت ومعرفتش أروح فين وقفت مكانى ما كنتش عارفة أجرى علشان مش قادرة أمشى على رجلى وكانوا هيجيبونى هيجيبونى. وبعدين لاقيت ناس واقفة وقفت معاهم عند سفارة أمريكا، مكان المستشفى الميدانى اللى هدوه، وفضلنا مش عارفين نروح فين. فضلوا يشتمونا ويهينونا تانى وفيه بنت جاتلها حالة هلع وقعدت تصوت بهستيريا. بنات تانية قعدوا يهدودها. لاقيت راجل دماغة مفتوحة قالى إنتِ الدكتورة اللى كنتى محبوسة معانا جوة وابتسم وارتاح لما شافنى، العساكر اللى على يمينا قعدوا يلقفونا للى على شمالنا ولا دول عايزين يعدونا ولا دول عايزين يعدونا. جه واحد بلبس مدنى تبعهم قالهم طلعوهم ناحية الضرب يستاهلوا. فى الآخر قرروا يمشونا من ناحية الجامعة الأمريكية علشان نروح مستشفى كنيسة قصر الدوبارة».
فى الوقت الذى وصل فيه الناشط الإلكترونى أحمد العش، كان عشرات المصابين قد سقطوا، وكانت سيارات الإسعاف تنقل متظاهرين يعانون إصابات خطيرة، ويقول: «سمعنا حينها أصوات ضرب نار، كان الجنود قد هجموا من عدة اتجاهات مرة واحدة وانسحبوا فجأة، وكانت الإصابات تتزايد بشكل كبير، وبعدما يئس الناس من إمكانية الرد من خلال الحجارة بدأوا فى إلقاء المولوتوف، وشاهدت حريقاً يشب فى أحد طوابق (هيئة الكبارى) وبعدها اشتد الضرب من أعلى مجلس الشعب، وحاول الناس التهدئة، لكن الجنود واصلوا استفزازهم لنا بالإشارات والأفعال المخلة، إلى أن حدث الهجوم الثانى، وقام الجيش بعمل (كماشة) مرة ثانية، وتم سحل عدد كبير من المتظاهرين والاعتداء عليهم بوحشية، وهنا حصلت واقعة الاعتداء على الفتاة اللى تم تعريتها وضربها أحد الجنود بحذائه فى صدرها».
يواصل العش: «اتجهنا إلى كوبرى قصر النيل أنا ومجموعة من أصحابى، وبعد صلاة الجمعة خرجنا من مسجد عمر مكرم، وتم إطلاق سراح مجموعة من المحتجزين بعدما هتفنا ضد المجلس والجيش، وتم إخراجهم على ٣ دفعات».
يرى «العش» أن من ألقوا المولوتوف هم ثوار مخلصون ومواطنون شرفاء من طبقات الشعب المختلفة، كانوا قد أصيبوا بالعجز والقهر بعدما أطلق الجيش الرصاص الحى والخرطوش على صدور الثوار، وبالتالى، وبحسب العش، فإن المولوتوف أصبح سلاحهم الدفاعى الوحيد ليس لإحراق البلد، ولكن لإجبار الجنود على النزول من المبانى التى اتخذوها حصونا ليقهروا من فوقها الشعب.
تتدخل نيرفانا سامى مرة أخرى قائلة إن يوم السبت لم يكن يوماً هادئاً، فقد استمرت المناوشات والاشتباكات بشكل عنيف بين الطرفين، وزاد عليه أن الجنود كانوا يسحبون المتظاهرين ناحيتهم، وبدأوا يسألون البوابين عن السكان ويجبرونهم على عدم النزول، وأحاطوا البيوت المجاورة لمجلس الوزراء، وكان من يخرج من بيته يتم القبض عليه، عدا البيوت التى يسكنها أجانب، ثم بدأت عمليات إرهاب المواطنين عن طريق ضرب رصاصات الصوت.
الـــمـــشــهــد الـــثـــانـــى
حين تعبر السياج الحديدى فى شارع قصر العينى، ستلمح فى عيون الجنود والضباط حالة من الأسى يحاولون إخفاءها بالصمت والملامح الحاسمة، وخاصة بين الضباط. ندخل أنا وزميلى المصور لنجد فى انتظارنا ضابطا يصحبنا إلى قائد المنطقة أمام مجلس الشورى.
أثناء سيرنا تلفت نظرنا حالة الدمار الواضح على المبانى الحكومية ومظاهر الحريق بادية عليها، خاصة فى الطابقين الأرضى والأول من مجلس الوزراء الملاصق لمجلس الشعب. حتى ماكينات النقود المتواجدة على أسوار مجلس الشورى فى شارع قصر العينى محطمة تماماً ويبدو أن ما بها قد سُرق. وعلى النقيض من ذلك تماماً لا تلحظ أى أثر لمعركة على الجانب الأيسر من شارع قصر العينى المواجه لمجلس الشورى والجمعية الجغرافية رغم وجود أكثر من ماكينة نقود على أبواب عدد من البنوك فى هذا الجانب، بالإضافة للمبنى الإدارى ذى الواجهة الزجاجية الذى لا يظهر عليه أى أثر للمعركة، ليطرح السؤال نفسه هل كان المشتبكون يركزون فى توجيه ضرباتهم على الجانب الأيمن للشارع الذى تتواجد به المبانى الحكومية رغم مشاهد العنف التى روجت لها وسائل الإعلام؟ طرحنا السؤال على الضابط الذى يسير بجوارنا فلم نجد لديه إجابة.
اقتربنا من الجنود الجالسين على الأرض ووجوههم فى اتجاه الحائط الخرسانى الفاصل بينهم وبين المعتصمين فى ميدان التحرير. فجأة يقفون بأوامر من ضباطهم بعد سماع أصوات طرق بمعدن على عامود النور المواجه للمجمع العلمى المحترق. يبتعدون إلى الوراء خشية إلقاء حجارة عليهم. فجأة نشاهد اثنين من المعتصمين خلف الحائط يصعدان أعلى العامود ويوجهان نظراتهما نحو الجنود الصامتين بأوامر من ضباطهم. كان قائد المنطقة برتبة عميد يتحدث معهم ثم تركهم واتجه إلينا مرحباً وقال: «هل تعلمين أننى أقف فى الشارع منذ شهر يناير الماضى، كانت مهامى تأمين منطقة ماسبيرو حتى شهر يوليو حين صدرت الأوامر بتكليفى بتأمين تلك المنطقة، حيث المنشآت الحكومية كثيرة.. هل تعرفين الهدف من تلك المهمة؟ التأمين للمنشآت وحمايتها مثلما اعتدنا حماية الوطن.. قد تردين بأن ذلك هو عملنا وأن غيابنا عن المنزل طبيعى لفترات طويلة قد تمتد لشهور أو سنوات، وهذا حقيقى، ولكننا كنا فى الماضى نخرج لتأمين الحدود والأمن الخارجى ولكننا لسنا قوات فض شغب».
أدرك رغبة الرجل فى الاسترسال فى الحديث وألمح فى حديثه اعتزازاً بوطنه وتفهماً لقيمته، فأبادره بالسؤال عن رأيه فى المعتصمين والمتظاهرين بحكم احتكاكه بهم طوال تلك الأشهر، فيبادرنى بإجابة لم أتوقعها من ضابط جيش، قائلا: «لن أصنف المعتصمين ولن أتهمهم فهم مثلى يحملون لقب مواطن، ولكن نظرتهم للأمر تختلف عن نظرتى رغم أن هدفنا واحد هو حماية الوطن، ولكنهم ينظرون للقضية من جانب واحد، وأنا أنظر إليها من جوانب أخرى. كثيراً ما تحدثت مع البعض منهم وكنت أخبرهم بأنهم أصحاب قضية أما أنا فصاحب مهمة، ومهمتى تتلخص فى تأمين البلد ضد أى تخريب وضد أى اعتداء مهما كان مصدره. ليس من الضرورى أن نشتبك ونحتك ببعضنا لأننا جميعاً من المفترض أن عيوننا على مصر. سؤالى لبعضهم وبخاصة ممن يدمنون الاعتصام، بيننا فاصل وحاجز من أسلاك شائكة أو فواصل خرسانية لماذا تتجاوزونه وتأتون للاحتكاك بالجنود باللفظ أو الطوب؟ لكم مطالب سياسية وهناك وجهات نظر تختلفون عليها مع المجلس العسكرى، لا تحملونى وتحملوا الجنود ذلك، فحل المشكلة ليس هنا. ليس من مصلحة مصر التخريب أو إشعال الحرائق أو اشتباك جيشها وشعبها، هذا لا يخدم سوى من يتربصون بنا وهم كثيرون فى الداخل والخارج».
يقطع حديثنا مرور موظفة من إحدى المؤسسات داخل المنطقة توجه سؤالها للقائد قائلة: «أريد أن أفهم هل فعلتم ما نراه على الشاشة ضد المعتصمين؟» ينظر إليها بتفهم ويترك الإجابة لأحد الضباط ويواصل حديثه معنا.
سألت القائد «كيف انفجر الموقف ليلة الجمعة ١٦ ديسمبر؟» فيجيبنى قائلاً: «كان المعتصمون متواجدين على طول شارع مجلس الشعب من بدايته عند مجلس الوزراء وحتى وزارة الصحة، فأغلقنا الطريق عليهم من جانب قصر العينى ومن ناحية وزارة الصحة لمنع أى اشتباكات رغم تأزم الموقف ورفضهم دخول رئيس الوزراء مكتبه. لماذا نضع الحواجز؟ ليس لضعف أو عجز، ولكن معنى الحاجز أننى أطمئنك بأننى لن أتقدم نحوك طالما ظللت بعيداً عنى. ورغم ذلك فعلى مدى الأيام التى تواجدنا فيها هنا كان عدد كبير من المعتصمين يسب الجنود بالأب والأم فى الذهاب والإياب، وكانت الأوامر واضحة بعدم الرد مهما حدث وعدم الاشتباك مع أحد تحت أى ظرف. وكثيراً ما كان المعتصمون يصلون حتى مكان تواجدى ويقومون من وراء الفاصل بسب المجلس العسكرى وينادون بسقوط حكمهم. ولذا كان الواضح أن هناك محاولة لجرنا لاشتباك تجنبناه طويلاً. حتى إننا كنا نغير أماكن العساكر يومياً حتى لا يظلوا فى مواجهة نفس الأشخاص يومياً فيزيد الاحتقان».
لفهم ما حدث فجر الجمعة كان علينا التساؤل عن طبيعة توزيع القوات فى تلك المنطقة التى يتواجد بها المعتصمون، فعلمنا أن هناك قوات كانت موجودة داخل مركز المعلومات وقوات أخرى فى مجلس الوزراء وجزءاً آخر وراء أسوار مجلس الشعب، هذا غير الحراسات فى شرفات المبانى لكشف الموقع من أعلى. إذن، كيف بدأت موقعة الكرة؟ يرد قائد المنطقة بقوله: «القصة ليست قصة كرة، القصة بدأت بعد منتصف الليل، حينما خرج أحد الضباط للمرور على الجنود لتأمين القوات، وهو إجراء روتينى، فالتف حوله ٣ من المعتصمين ممن كانوا يلعبون الكرة فى تلك الأثناء، وشاهده الجنود فى الشرفات العالية فأشاروا لزملائهم فى الأسفل ليسرعوا فى اتجاه الضابط، وهو ما حدث فأحاط الجنود بضابطهم وحدثت مشادة انتهت بأخذ الجنود واحداً من المعتصمين بسبب تطاوله على الضابط والجنود باللفظ».
هكذا إذن، الحكاية ليست بسبب كرة دخلت مجلس الشعب، ولكنه اشتباك على خلفية غاضبة، فسحب المعتصم مع الجنود يعنى قيامهم بضربه بعصيهم أو بأيديهم. وهو ما يعترف به قائد المنطقة، لكنه ينفى آثار الضرب التى ظهر عليها المعتصم فى قنوات التليفزيون. ويضيف: «نعم كان المعتصم يسب الضابط والجيش والجنود، فرد عليه الجنود بضربه، لكن ليس الضرب الذى شاهدته فى التليفزيون، واحتجزوه وبعد دقائق اشتعلت الدنيا وبدأ بقية المعتصمين فى إلقاء الطوب وطالبوا بالإفراج عن زميلهم، فقبلت وطلبت منهم ألا تتكرر تلك الواقعة، لأننى لن أسمح بها، ولن أنتظر أن يخرج منهم من يهين ضابطاً أو عسكرياً باليد - كما حدث مع سائق الميكروباص، الذى صفع عميد قسم الأزبكية على وجهه منذ عدة أشهر، وأعدت لهم زميلهم، لكنهم استمروا فى إلقاء الحجارة وبدأوا فى إحراق المخيمات الخاصة بهم عند مجلس الوزراء، واستمرت الاشتباكات حتى صلاة الظهر، وفى تلك الأثناء ألقينا القبض على ٦٠ متهماً، لأن الأمور كانت تتطور بسرعة، ومن خبرتى طيلة الشهور الماضية أدركت أن غالبية المعتصمين ليسوا من المتظاهرين، ثم يبدأ نحو ١٠٠ أو ١٢٠ من مثيرى الشغب بالاشتباكات، وحينما نتقدم لتفريقهم أو القبض عليهم، يختفون فنجد أنفسنا فى مواجهة المتظاهرين.
هكذا تطورت الأمور وبات العنف سيد الموقف، لكن من الذين كانوا يقفون فوق مبنى مجلس الشعب يشيرون بأياديهم ويلقون بالمياه والحجارة على المتظاهرين؟ الإجابة كما يقول قائد المنطقة: «هؤلاء هم موظفو مجلس الشعب الذين دخلوا فى اشتباكات بالحجارة والألفاظ مع المتظاهرين وصدرت الأوامر بإنزالهم، وهو ما حدث، لكن مع تزايد محاولات المعتصمين لاقتحام مجلس الشعب، صعد الموظفون مرة أخرى واحتلوا السطح».
هذه رواية الجانب الآخر عن الاشتباكات، لكن المشهد الذى أثار الضجة الكبرى هو مشهد الفتاة المسحولة التى صارت حديث مصر كلها، سألت القائد عما إذا كانت لديه بنات، فيؤكد لى أن لديه ابنة عمرها ٢٠ سنة، وقال إنها سألته كيف يفعلون هذا بفتاة فى الشارع؟ وأجابها كما أجابنى قائلاً: «لسنا قوات فض شغب، نحن جنود قوات مسلحة مهمتنا تأمين المنشآت، والجنود كانوا يتعاملون بتلقائية ويؤدون عملهم تحت وابل من الحجارة والرخام وزجاجات المولوتوف، وما حدث مع الفتاة أنها اقتربت منهم وسبتهم بشتائم لا تليق، وكانت الأوامر لديهم أن يقبضوا على أى معتصم يقترب منهم أو من المبانى.
كنا فى اشتباك ولذا عندما جذبها الجندى ووقعت على الأرض فوجئ بعباءتها تنفتح، ولا أقول إن لدى عساكر ملائكة، ولكن فى ظل هذا المناخ جاء من ينتقم وضربها بقدمه، لكن لم يتحدث أحد عن العسكرى الذى مد يده ليستر جسدها. هل تعرفين ما وسائل تأمين جندى فض الشغب؟ عصاة وقنابل مسيلة للدموع ودرع وخرطوش، لكن الجندى الموجود فى التحرير ليس معه سوى عصا سميكة ودرع. وسحب منه الخرطوش منذ نزوله الشارع، ثم سحبت منه القنابل المسيلة للدموع بعد أحداث محمد محمود، وبالتالى لا يمتلك ما يدافع به عن نفسه ويحمى به المنشآت سوى العصا والدرع والرد بالطوبة نفسها التى تلقى عليه، ويبقى السؤال: أليسوا يقولون إن تلك مظاهرات واعتصامات سلمية؟ هل السلم يعنى أن تقذفنى بالطوب والمولوتوف وتحرق منشآت مهمتى تأمينها؟».
ترن فى أذنى عبارة «اليد الخفية»، التى يعلق عليها المجلس العسكرى كل تلك الأحداث منذ عدة أشهر دون أن يكشف لنا ولو إصبعاً واحداً حتى يومنا هذا، وسألت القائد عما إذا كان شاهد طيلة الفترات الماضية أى شىء غامض؟ فأجاب: «ليس من مهامى التعليق، ولكن العالمين ببواطن الأمور يعرفون أن هناك شيئاً خفياً، وما أراه كل يوم فى الشارع يؤكد لى حدسى، ولن أتهم المتظاهرين الذين يملأون الميدان بالآلاف، ولكننى أتهم من يندسون بينهم وأرصدهم بحكم التواجد ليل نهار فى المكان، ولا أعلم لماذا لا يعلن المسؤولون عن المتهمين الحقيقيين الذين تؤكد التحريات تورطهم، لكن قد تكون القرائن غير مكتملة، ولو كنت مسؤولاً لألقيت القبض على أى شخص تحوم حوله شبهات، لأنه لا يمكن أن نظل فى تلك الفوضى كثيراً».
سألته عن سبب قيامهم بفض الاعتصام فى التحرير فجر السبت وهدم الخيام، فقال: «ما حدث أن الجنود كانوا يقفون فى أول شارع قصر العينى خلف الأسلاك الشائكة، وبدأ المعتصمون فى إلقاء الحجارة عليهم، فاخترق أحدها عين مجند وانفجر الدم من عينه كنافورة، فاندفع نحوهم من شدة الألم ولحق به زملاؤه ووضعوه جانباً، ثم اندفعوا خلف المتظاهرين، هل تعرفين أننى أعذر فى بعض الأحيان شباب المتظاهرين لأنهم باتوا بلا شىء مما خرجوا فى سبيله فى ٢٥ يناير.. سرقت منهم ثورتهم عبر سياسيين ملأوا الدنيا كلاماً، وبحث كل منهم عن مصلحته الخاصة، فتفرقوا وأساءوا للمتظاهرين الذين لم يكسبوا شيئاً.
بعض السياسيين المفوهين فى القنوات يحضرون لنا ويعلنون عبارات من عينة الهدنة ووقف العنف ويتاجرون بالكلمة على الشاشات، ويقولون عكس ما اتفقنا عليه». طلبت من القائد الحديث مع بعض المجندين ممن عايشوا الأحداث.. يقول المجند رجب، الذى لا يتجاوز عمره ٢٢ سنة، إنه من سوهاج وحاصل على مؤهل فوق متوسط، وإن تجنيده بدأ فى فبراير ٢٠١٠، سألته عما حدث فقال بعبارات متقطعة: «الدنيا ولعت يوم الخميس بالليل فجأة لقينا طوب ونار نازلة علينا جرينا والظباط قالوا لنا نقبض على أى حد بيحدف طوب أو بيحاول يكسر سور مجلس الشعب والمبانى اللى حوالينا». وسألته كيف كان يتابع المعتصمين قبل الأحداث، فأجاب: «كل يوم أتشتم بالأب والأم، أسكت عشان القائد قال ما تردش، ولو كنت بره الخدمة وشتمونى زى ما كانوا بيشتموا كنت قطّعتهم، أنا مؤهل فوق المتوسط، متعلم يعنى، وابن ناس برضه وأهلى طيبين أجيب لهم الشتيمة؟ هما يحبوا حد يشتمهم بأبوهم وأمهم؟ طيب أدينا قاعدين فى حالنا ورا السور الأسمنت ده، ليه بيطلعوا فوق عواميد النور ويبصوا علينا ويخبطوا على العواميد بالحديد، أنا كل منايا أخلّص الخدمة وأرجع بلدنا وأشتغل وأشوف حياتى».
نترك رجب ونسير فى اتجاه مجلس الشعب فنجد المجند عبدالباقى، ٢٢ سنة أيضاً، من الفيوم. يقول إنه جاء للمنطقة منذ ٢٠ نوفمبر الماضى، ويضيف: «زى ما كان فيه ناس بتشتم بالأب والأم، كان فيه ناس طيبة يقولوا السلام عليكم، أو يسألوا لو كنا عايزين حاجة، لكن برده شفنا حاجات مش ولابد، يعنى كان فيه خيمة جنب مجلس الوزرا من ناحية شارع قصر العينى ما بيدخلهاش كل يوم غير تلميذة كانت بتيجى بلبس المدرسة، وولد شاب قاعد هنا على طول ويدخلوا ويغيبوا، ولما المعتصمين حسوا إن فيه حاجة غلط ضربوهم ومشوهم من الخيمة وما رضيوش يرجعوهم تانى».
سألت عبدالباقى عن أحداث الجمعة فقال: «أنا ما شفتش البداية لكن فجأة لقينا الدنيا باظت، طوب على مجلس الشعب وعلى زمايلنا وولعوا نار فى الخيم بتاعتهم اللى هنا ومولوتوف، والأوامر جاءت لنا نحمى الشوارع والمبانى بأى طريقة، وما كانش قصدنا نضرب حد، واللى يحاول يقرب منا كنا
جانب من الاشتباكات
تقول القاعدة التى توارثناها عن أجدادنا إن العبرة بالخواتيم، لكن خواتيمنا كلها دم ودخان ونار وشهداء ومصابون ومولوتوف وحجارة، منذ اندلعت المواجهات التى نسبت إلى طرف ثالث يعرفه المجلس العسكرى ولا يريد الإفصاح عنه.. حدث هذا فى أحداث البالون ثم ماسبيرو ثم محمد محمود وربما ليس أخيرا مجلس الوزراء، ففى كل هذه المواجهات ظلت البداية لغزا مستعصيا على الفهم والحل.
عندما وقعت أحداث مجلس الوزراء وامتدت إلى شارعى الشيخ ريحان وقصر العينى، كان السؤال الذى يطرح نفسه ولا يجد إجابة: كيف اندلعت الشرارة الأولى؟ وحتى المشهد الختامى الذى انتهى بطن من الأسلاك الشائكة يحيط الشوارع المؤدية إلى وزارة الداخلية، وحائط خرسانى يغلق شارع قصر العينى من جهة ميدان التحرير، ويفصل بين عالمين مختلفين متواجهين: ثوار غاضبون، وجنود غاضبون. «المصرى اليوم» اجتازت الجدار الفاصل بين العالمين، التقت الثوار والجنود. صحيح أن شهادات المعتصمين متداولة لكنها لم تجب أبدا عن سؤال البداية، أما جنود الجيش وقادته فى المنطقة الملتهبة فلم نسمع أبدا شهاداتهم ورؤيتهم لما جرى وكيف جرى؟.
الـــمـــشـــهــــد الأول
لم يكن عددهم فى الميدان كثيراً، بل كانوا متنأثرين فى التحرير وحول الحواجز المسلحة الخرسانية، يتشكلون فى جماعات ويتحدثون مع المارة الذين يستوقفونهم، البعض يسأل عما حدث وما سيحدث، والبعض الآخر يؤكد لهم أن مصر أهم وأكبر من الخلاف، وآخرون ينظرون إليهم ويتساءلون عما إذا كانوا بلطجية كما يتردد. تتوه وسط الحديث والناس، وتعجز عن متابعة ما يحدث إلى أن تجد شاهد عيان على ما حدث منذ فجر الجمعة ١٦ ديسمبر.
محمد كمال.. هذا هو اسمه، حينما سألنا عن شهود عيان لأحداث شارع مجلس الوزراء أشاروا إلى محمد الذى لا يتجاوز عمره ٢٥ سنة. عرفنا منه أنه كان أحد المعتصمين فى شارع مجلس الشعب. روايته عن الأحداث تنفى قصة الكرة التى دخلت مجلس الشعب ورواها الإعلام والمجلس العسكرى، وتؤكد حكاية الاحتكاك بالضابط كما رواها قائد المنطقة، ولكن بتفاصيل أخرى. يسرد محمد بداية الأحداث قائلاً: «كانت هناك سيارة وبها ضابط يرتدى ملابس مدنية تقف خارج مكان الاعتصام، اقترب منها عبودى وسأله عن سبب تواجده وكلمة من هنا وكلمة من هناك اشتبك الضابط وعبودى، فاتصل الضابط بالقوات المتواجدة فى شارع القصر العينى، فحضرت مجموعة فكت الاشتباك وأخذت عبودى معها. كان من الواضح لنا أن عبودى سيتعرض لموقف صعب، ولم يكن أمامنا سوى التجمهر والطرق على أعمدة الإنارة والهتاف ضد المجلس العسكرى ليطلقوا سراح زميلنا. وبالفعل أخرجه لنا الضابط ولكنه كان فى حالة يرثى لها والدماء تسيل على وجهه، ساد الغضب بيننا واشتعل الموقف.
يقول كمال: «أعتقد أن ما حدث كان متعمداً، فالجيش فى تلك المنطقة يرانا نأكل ونلعب كرة ونعزف على الجيتار وهو يقف أمامنا فى كامل استعداده وهيئته ونحن لا نبالى به. فقرر أن يفعل ما فعل لتصعيد الأحداث سعياً لفض الاعتصام الذى طال بالنسبة له.. وعقب خروج عبودى من احتجاز الجيش مضروباً والدماء تسيل على وجهه اشتعلت الأحداث ولم يعد أحد يفكر من المعتصمين سوى فى الثأر، فبدأوا فى إلقاء الطوب والحجارة على الجيش بعنف». ويضيف: «خلعنا حجارة الأرصفة ورخام السور المحيط بالمجلس.. كنا نشعر بالإهانة والغضب وألقيناها عليهم وهم ردوا بمثلها واستعانوا بقوات إضافية جاءت لتضرب معهم وأخرجونا من شارع مجلس الشعب لشارع قصر العينى، ورغم توافد المزيد من المتظاهرين علينا فإن العنف استمر من جانب الجيش. وبدأ الجنود فى ضربنا ومطاردتنا بالعصى والجرى خلفنا حتى تقاطع الشيخ ريحان مع قصر العينى. وفجأة شاهدنا أفرادا فوق المبانى الممتدة من مجلس الوزراء وحتى فوق المجمع العلمى، كانوا يلقون علينا كميات مجمعة من الطوب والرخام والحجارة وكان من يقع منا على الأرض تنقله الموتوسيكلات للمستشفى الميدانى عند عمر مكرم، دون أن نتساءل عما حدث له، هل أصيب أم مات. لم يكن لدينا وقت لفعل ذلك. ثم وجدنا أفراداً آخرين يمسكون بخراطيم مياه ضخمة فتحوها علينا من مكانهم فى الحديقة الملاصقة للمجمع العلمى فى الشيخ ريحان».
وبرؤية أفقية راحت نيرفانا سامى تروى القصة من زاوية مختلفة: صباح الجمعة ١٦ ديسمبر، استيقظت على صوت اشتباكات شديدة وصراخ فى شارع قصر العينى. كانت تقضى الليلة عند صديقة لها تسكن فى عقار مواجه لمجلس الوزراء، رأت المشهد كالتالى: المعتصمون ولم يكن عددهم يتجاوز ١٠٠ يهتفون ضد المجلس العسكرى، فجأة برز طفلان ما بين ١٢ و١٥ سنة، راحا يستفزان الضباط بحركات مبتذلة ويطلقون عليهم وابلا من السباب والشتائم، لحظات واختفيا عن الأنظار، وعلى الفور تحرك قرابة ٨ صفوف من الشرطة العسكرية ناحية المتظاهرين، وبدأوا يعصفون بهم دون تمييز، وكان الجنود يضربون فى الرأس، وفى كل أجزاء الجسم دون التفريق بين شاب وفتاة، واستمرت الاشتباكات طوال اليوم وبدأ إلقاء المولوتوف والحجارة على الجيش فى عمليات كر وفر بين الطرفين.
وصلت ماجى أسامة إلى منطقة الأحداث قرابة التاسعة صباحاً، وبحسب روايتها كان أفراد الجيش يقفون على سطح أحد مبانى مجلس الشعب، فوق لافتة تقول «الديمقراطية هى توكيد سيادة الشعب»، وكان معهم آخرون يرتدون ملابس مدنية، وكانوا يلقون أطباقاً وحجارة وزجاجاً مكسوراً، ثم رأيتهم يلقون «دولاب» علينا، فيما كان المتظاهرون يحاولون يأسا أن يبادلوهم الرشق بالحجارة، لكن المسافة كانت بعيدة.
وفى لحظات اختفى الأفراد الذين كانوا يرتدون الملابس المدنية من فوق المجلس، فتوقف الضرب، وكنت حينها مع الناشط نور أيمن نور، لكن المتظاهرين لم يتوقفوا عن إلقاء الحجارة على زجاج مجلس الشعب من ناحية شارع قصر العينى، وشاهدت حينها أحد المواطنين يقف داخل حديقة المجلس ويشعل زجاجة مولوتوف ويلقيها من النافذة، فيما كان البعض يحاول اقتحام سور الحديقة، وكسر القفل للدخول، وسعيت حينها مع بعض النشطاء لإقناع الناس بالتوقف عن هذا والعودة إلى الميدان لكنهم رفضوا وهاجمونا، وقالوا إن ما يفعلونه ليس فعلا بل هو رد فعل لانتهاكات الجيش، وظل الوضع مستمراً على هذا المنوال.
وهنا يتدخل نور أيمن نور: وصلت إلى مجلس الوزراء صباح الجمعة، وجدت الضباط والعساكر يلقون الحجارة من فوق المبنى الإدارى التابع لمجلس الشعب، وكان المتظاهرون أسفل المبنى يردون عليهم لكن الحجارة التى كانوا يلقونها كانت لا تصل، فيما كانت الإصابات تزيد والمستشفى الميدانى يمتلئ بالمصابين نتيجة كسر الرخام والأطباق والدواليب والكنب التى كان يتم إلقاؤها، كل هذا أشعل غضب الناس الذين استمروا فى اعتصامهم السلمى قرابة أسبوعين، التزموا فيه بكل قواعد الاعتصام والتظاهر السلمى والقانونى، ولم يمارسوا أى أعمال تخريبية، إلى أن بدأ مجموعة من الشباب فى ملء زجاجات المولوتوف وإلقائها على المبنى الإدارى الذى يقف فوقه جنود الجيش بعدما راحوا يستفزونهم بحركات خارجة، وحاولوا بالفعل كسر البوابة واقتحام المبنى، لكن الجيش عمل كماشة على المتظاهرين وبدأ فى سحلهم وضربهم وساعتها أنا أتقبض عليا ودخلت مجلس الشعب».
وتروى الطبيبة فريدة الحصى شهادتها على صفحتها الخاصة بموقع الفيس بوك: «عرفت أن فيه مستشفى ميدانى اتعملت عند السفارة الأمريكية وأنهم محتاجين دكاترة ومساعدات علشان فيه إصابات كتير بسبب الحاجات اللى الجيش بيحدفها من فوق، فقررت أنزل علشان أساعد. وصلت الساعة ١٠ صباحاً ومشيت ناحية شارع القصر، ووقفت شوية مع ناس بيتكلموا على اللى حصل وإن الجيش هو اللى ضرب عبودى. دخلت جوا وكان الطوب اللى بيتحدف من فوق المبانى من الجيش أكتر وشباب وأطفال كتير ما كانوش خايفين وبيحدفوا طوب على ضباط الجيش اللى واقفين فوق المبنى بس طبعا ما كانش بيوصل. كان فى ناس تانية بتحدف طوب تكسر شبابيك مبنى داخل مجلس الشعب، وكان فيه غرفة كهرباء كده طالع منها دخان بس مش عارفة مين اللى ولعها».
وتكمل فريدة: «العساكر فوق المبنى كان فيهم لابس بدلة ميرى وكان فيه عساكر، وكان فيه لابس مدنى وواحد لابس زى فانلة سودة كده. المهم كانوا بيستفزوا الناس بحركات قليلة الأدب فالناس كانت بتشتمهم وتهتف ضد المجلس العسكرى. وصلت ناحية المستشفى شفت الناس متجمعة ومنهم أسماء محفوظ بيحاولوا يقنعوا الناس ترجع على الميدان لأن عدد المصابين كتير وكفاية دم كده. وللأسف كان فيه ناس ابتدوا يولعوا فى الدور الأول لمجلس الشعب بعد ما فكوا السور الحديد وقدروا يدخلوا. المهم المعارضين لفكرة الرجوع إلى الميدان كانوا كتير وبعد كده الناس اللى بتهدى دى مشيت والجيش بطل ضرب من فوق وفوجئنا بهجوم قوات الجيش علينا، كانت قوات المظلات. كان فيه منهم ملثمين وكانوا معاهم عصيان سوداء كبيرة شبه السيف شوية أو الكرباج. وأنا باجرى لقيت سيدة عجوز يمكن أواخر الخمسينيات واقفة خايفة. رجعتلها وقلتلها أجرى قالتلى لا خلينا واقفين ما تخافيش قعدت أشدها وأقولها إجرى إجرى لحد ما عسكرى جرى ناحيتى وكان هيضربنى، الست رجعت لورا شوية وأنا كملت جرى ولقيت شوية عساكر سبقونى بيجروا ورا ناس تانية ساعتها عرفت إنهم هيمسكونى. وجه عسكرى ضربنى على ضهرى وقعت والتف عليا ٦ أو ٧ عساكر جيش قعدوا يضربوا فيا بالعصيان اللى معاهم والشلاليت وبأيديهم.
نور أيمن نور، كان بيجرى قدامى لما لقاهم اتلموا عليا رجعلى وقلهم دى بنت ما تضربوهاش فقعدوا يضربوه وبعدين مسكونا إحنا الاتنين وشدونى من شعرى وواحد كان مسكنى من شعرى والباقيين ماشيين معاه بيضربوا برضه زى ما يكونوا ما صدقوا مسكوا حد».
وتحكى فريدة «دخلت مبنى مجلس الشعب واعتدوا على بالضرب مرة تانية بالداخل وقعد يقولى الضابط انتوا فاكرين نفسكوا إيه فاكرين إنكم هاتكسرونا! إحنا أسيادكم! ماكنتش بأرد ولا بعيط فابتدا يحاول يتحرش بيا ساعتها زقيت إيده وقلت له يحترم نفسه! دخلونا مبنى كده ودخلنا فيه مكان فى ناس تانية زينا وضباط جيش كتير. قعدونا فى الأرض كان فيه واحد دماغه فيها جرح ووشه مليان دم وبيعيط جامد. طلبوا مننا البطايق إديتهم كارنية النقابة، لما عرفوا إنى دكتورة قعدوا يقولولى جايه تعالجى الثوار؟ بمنتهى الغل بس مارديتش عليهم علشان هما بيستفزونى.. بعد ما طلعونا قعدت على الرصيف، ناس كتير اتكلمت معايا وسألتنى على اللى حصل وقعدت تهدى فيا. قابلت ناس قالولى لازم أوثق الحالة فى مركز هشام مبارك أو النديم وأعمل محضر وفجأة الجيش هجم تانى علينا. أنا اتخضيت ومعرفتش أروح فين وقفت مكانى ما كنتش عارفة أجرى علشان مش قادرة أمشى على رجلى وكانوا هيجيبونى هيجيبونى. وبعدين لاقيت ناس واقفة وقفت معاهم عند سفارة أمريكا، مكان المستشفى الميدانى اللى هدوه، وفضلنا مش عارفين نروح فين. فضلوا يشتمونا ويهينونا تانى وفيه بنت جاتلها حالة هلع وقعدت تصوت بهستيريا. بنات تانية قعدوا يهدودها. لاقيت راجل دماغة مفتوحة قالى إنتِ الدكتورة اللى كنتى محبوسة معانا جوة وابتسم وارتاح لما شافنى، العساكر اللى على يمينا قعدوا يلقفونا للى على شمالنا ولا دول عايزين يعدونا ولا دول عايزين يعدونا. جه واحد بلبس مدنى تبعهم قالهم طلعوهم ناحية الضرب يستاهلوا. فى الآخر قرروا يمشونا من ناحية الجامعة الأمريكية علشان نروح مستشفى كنيسة قصر الدوبارة».
فى الوقت الذى وصل فيه الناشط الإلكترونى أحمد العش، كان عشرات المصابين قد سقطوا، وكانت سيارات الإسعاف تنقل متظاهرين يعانون إصابات خطيرة، ويقول: «سمعنا حينها أصوات ضرب نار، كان الجنود قد هجموا من عدة اتجاهات مرة واحدة وانسحبوا فجأة، وكانت الإصابات تتزايد بشكل كبير، وبعدما يئس الناس من إمكانية الرد من خلال الحجارة بدأوا فى إلقاء المولوتوف، وشاهدت حريقاً يشب فى أحد طوابق (هيئة الكبارى) وبعدها اشتد الضرب من أعلى مجلس الشعب، وحاول الناس التهدئة، لكن الجنود واصلوا استفزازهم لنا بالإشارات والأفعال المخلة، إلى أن حدث الهجوم الثانى، وقام الجيش بعمل (كماشة) مرة ثانية، وتم سحل عدد كبير من المتظاهرين والاعتداء عليهم بوحشية، وهنا حصلت واقعة الاعتداء على الفتاة اللى تم تعريتها وضربها أحد الجنود بحذائه فى صدرها».
يواصل العش: «اتجهنا إلى كوبرى قصر النيل أنا ومجموعة من أصحابى، وبعد صلاة الجمعة خرجنا من مسجد عمر مكرم، وتم إطلاق سراح مجموعة من المحتجزين بعدما هتفنا ضد المجلس والجيش، وتم إخراجهم على ٣ دفعات».
يرى «العش» أن من ألقوا المولوتوف هم ثوار مخلصون ومواطنون شرفاء من طبقات الشعب المختلفة، كانوا قد أصيبوا بالعجز والقهر بعدما أطلق الجيش الرصاص الحى والخرطوش على صدور الثوار، وبالتالى، وبحسب العش، فإن المولوتوف أصبح سلاحهم الدفاعى الوحيد ليس لإحراق البلد، ولكن لإجبار الجنود على النزول من المبانى التى اتخذوها حصونا ليقهروا من فوقها الشعب.
تتدخل نيرفانا سامى مرة أخرى قائلة إن يوم السبت لم يكن يوماً هادئاً، فقد استمرت المناوشات والاشتباكات بشكل عنيف بين الطرفين، وزاد عليه أن الجنود كانوا يسحبون المتظاهرين ناحيتهم، وبدأوا يسألون البوابين عن السكان ويجبرونهم على عدم النزول، وأحاطوا البيوت المجاورة لمجلس الوزراء، وكان من يخرج من بيته يتم القبض عليه، عدا البيوت التى يسكنها أجانب، ثم بدأت عمليات إرهاب المواطنين عن طريق ضرب رصاصات الصوت.
الـــمـــشــهــد الـــثـــانـــى
حين تعبر السياج الحديدى فى شارع قصر العينى، ستلمح فى عيون الجنود والضباط حالة من الأسى يحاولون إخفاءها بالصمت والملامح الحاسمة، وخاصة بين الضباط. ندخل أنا وزميلى المصور لنجد فى انتظارنا ضابطا يصحبنا إلى قائد المنطقة أمام مجلس الشورى.
أثناء سيرنا تلفت نظرنا حالة الدمار الواضح على المبانى الحكومية ومظاهر الحريق بادية عليها، خاصة فى الطابقين الأرضى والأول من مجلس الوزراء الملاصق لمجلس الشعب. حتى ماكينات النقود المتواجدة على أسوار مجلس الشورى فى شارع قصر العينى محطمة تماماً ويبدو أن ما بها قد سُرق. وعلى النقيض من ذلك تماماً لا تلحظ أى أثر لمعركة على الجانب الأيسر من شارع قصر العينى المواجه لمجلس الشورى والجمعية الجغرافية رغم وجود أكثر من ماكينة نقود على أبواب عدد من البنوك فى هذا الجانب، بالإضافة للمبنى الإدارى ذى الواجهة الزجاجية الذى لا يظهر عليه أى أثر للمعركة، ليطرح السؤال نفسه هل كان المشتبكون يركزون فى توجيه ضرباتهم على الجانب الأيمن للشارع الذى تتواجد به المبانى الحكومية رغم مشاهد العنف التى روجت لها وسائل الإعلام؟ طرحنا السؤال على الضابط الذى يسير بجوارنا فلم نجد لديه إجابة.
اقتربنا من الجنود الجالسين على الأرض ووجوههم فى اتجاه الحائط الخرسانى الفاصل بينهم وبين المعتصمين فى ميدان التحرير. فجأة يقفون بأوامر من ضباطهم بعد سماع أصوات طرق بمعدن على عامود النور المواجه للمجمع العلمى المحترق. يبتعدون إلى الوراء خشية إلقاء حجارة عليهم. فجأة نشاهد اثنين من المعتصمين خلف الحائط يصعدان أعلى العامود ويوجهان نظراتهما نحو الجنود الصامتين بأوامر من ضباطهم. كان قائد المنطقة برتبة عميد يتحدث معهم ثم تركهم واتجه إلينا مرحباً وقال: «هل تعلمين أننى أقف فى الشارع منذ شهر يناير الماضى، كانت مهامى تأمين منطقة ماسبيرو حتى شهر يوليو حين صدرت الأوامر بتكليفى بتأمين تلك المنطقة، حيث المنشآت الحكومية كثيرة.. هل تعرفين الهدف من تلك المهمة؟ التأمين للمنشآت وحمايتها مثلما اعتدنا حماية الوطن.. قد تردين بأن ذلك هو عملنا وأن غيابنا عن المنزل طبيعى لفترات طويلة قد تمتد لشهور أو سنوات، وهذا حقيقى، ولكننا كنا فى الماضى نخرج لتأمين الحدود والأمن الخارجى ولكننا لسنا قوات فض شغب».
أدرك رغبة الرجل فى الاسترسال فى الحديث وألمح فى حديثه اعتزازاً بوطنه وتفهماً لقيمته، فأبادره بالسؤال عن رأيه فى المعتصمين والمتظاهرين بحكم احتكاكه بهم طوال تلك الأشهر، فيبادرنى بإجابة لم أتوقعها من ضابط جيش، قائلا: «لن أصنف المعتصمين ولن أتهمهم فهم مثلى يحملون لقب مواطن، ولكن نظرتهم للأمر تختلف عن نظرتى رغم أن هدفنا واحد هو حماية الوطن، ولكنهم ينظرون للقضية من جانب واحد، وأنا أنظر إليها من جوانب أخرى. كثيراً ما تحدثت مع البعض منهم وكنت أخبرهم بأنهم أصحاب قضية أما أنا فصاحب مهمة، ومهمتى تتلخص فى تأمين البلد ضد أى تخريب وضد أى اعتداء مهما كان مصدره. ليس من الضرورى أن نشتبك ونحتك ببعضنا لأننا جميعاً من المفترض أن عيوننا على مصر. سؤالى لبعضهم وبخاصة ممن يدمنون الاعتصام، بيننا فاصل وحاجز من أسلاك شائكة أو فواصل خرسانية لماذا تتجاوزونه وتأتون للاحتكاك بالجنود باللفظ أو الطوب؟ لكم مطالب سياسية وهناك وجهات نظر تختلفون عليها مع المجلس العسكرى، لا تحملونى وتحملوا الجنود ذلك، فحل المشكلة ليس هنا. ليس من مصلحة مصر التخريب أو إشعال الحرائق أو اشتباك جيشها وشعبها، هذا لا يخدم سوى من يتربصون بنا وهم كثيرون فى الداخل والخارج».
يقطع حديثنا مرور موظفة من إحدى المؤسسات داخل المنطقة توجه سؤالها للقائد قائلة: «أريد أن أفهم هل فعلتم ما نراه على الشاشة ضد المعتصمين؟» ينظر إليها بتفهم ويترك الإجابة لأحد الضباط ويواصل حديثه معنا.
سألت القائد «كيف انفجر الموقف ليلة الجمعة ١٦ ديسمبر؟» فيجيبنى قائلاً: «كان المعتصمون متواجدين على طول شارع مجلس الشعب من بدايته عند مجلس الوزراء وحتى وزارة الصحة، فأغلقنا الطريق عليهم من جانب قصر العينى ومن ناحية وزارة الصحة لمنع أى اشتباكات رغم تأزم الموقف ورفضهم دخول رئيس الوزراء مكتبه. لماذا نضع الحواجز؟ ليس لضعف أو عجز، ولكن معنى الحاجز أننى أطمئنك بأننى لن أتقدم نحوك طالما ظللت بعيداً عنى. ورغم ذلك فعلى مدى الأيام التى تواجدنا فيها هنا كان عدد كبير من المعتصمين يسب الجنود بالأب والأم فى الذهاب والإياب، وكانت الأوامر واضحة بعدم الرد مهما حدث وعدم الاشتباك مع أحد تحت أى ظرف. وكثيراً ما كان المعتصمون يصلون حتى مكان تواجدى ويقومون من وراء الفاصل بسب المجلس العسكرى وينادون بسقوط حكمهم. ولذا كان الواضح أن هناك محاولة لجرنا لاشتباك تجنبناه طويلاً. حتى إننا كنا نغير أماكن العساكر يومياً حتى لا يظلوا فى مواجهة نفس الأشخاص يومياً فيزيد الاحتقان».
لفهم ما حدث فجر الجمعة كان علينا التساؤل عن طبيعة توزيع القوات فى تلك المنطقة التى يتواجد بها المعتصمون، فعلمنا أن هناك قوات كانت موجودة داخل مركز المعلومات وقوات أخرى فى مجلس الوزراء وجزءاً آخر وراء أسوار مجلس الشعب، هذا غير الحراسات فى شرفات المبانى لكشف الموقع من أعلى. إذن، كيف بدأت موقعة الكرة؟ يرد قائد المنطقة بقوله: «القصة ليست قصة كرة، القصة بدأت بعد منتصف الليل، حينما خرج أحد الضباط للمرور على الجنود لتأمين القوات، وهو إجراء روتينى، فالتف حوله ٣ من المعتصمين ممن كانوا يلعبون الكرة فى تلك الأثناء، وشاهده الجنود فى الشرفات العالية فأشاروا لزملائهم فى الأسفل ليسرعوا فى اتجاه الضابط، وهو ما حدث فأحاط الجنود بضابطهم وحدثت مشادة انتهت بأخذ الجنود واحداً من المعتصمين بسبب تطاوله على الضابط والجنود باللفظ».
هكذا إذن، الحكاية ليست بسبب كرة دخلت مجلس الشعب، ولكنه اشتباك على خلفية غاضبة، فسحب المعتصم مع الجنود يعنى قيامهم بضربه بعصيهم أو بأيديهم. وهو ما يعترف به قائد المنطقة، لكنه ينفى آثار الضرب التى ظهر عليها المعتصم فى قنوات التليفزيون. ويضيف: «نعم كان المعتصم يسب الضابط والجيش والجنود، فرد عليه الجنود بضربه، لكن ليس الضرب الذى شاهدته فى التليفزيون، واحتجزوه وبعد دقائق اشتعلت الدنيا وبدأ بقية المعتصمين فى إلقاء الطوب وطالبوا بالإفراج عن زميلهم، فقبلت وطلبت منهم ألا تتكرر تلك الواقعة، لأننى لن أسمح بها، ولن أنتظر أن يخرج منهم من يهين ضابطاً أو عسكرياً باليد - كما حدث مع سائق الميكروباص، الذى صفع عميد قسم الأزبكية على وجهه منذ عدة أشهر، وأعدت لهم زميلهم، لكنهم استمروا فى إلقاء الحجارة وبدأوا فى إحراق المخيمات الخاصة بهم عند مجلس الوزراء، واستمرت الاشتباكات حتى صلاة الظهر، وفى تلك الأثناء ألقينا القبض على ٦٠ متهماً، لأن الأمور كانت تتطور بسرعة، ومن خبرتى طيلة الشهور الماضية أدركت أن غالبية المعتصمين ليسوا من المتظاهرين، ثم يبدأ نحو ١٠٠ أو ١٢٠ من مثيرى الشغب بالاشتباكات، وحينما نتقدم لتفريقهم أو القبض عليهم، يختفون فنجد أنفسنا فى مواجهة المتظاهرين.
هكذا تطورت الأمور وبات العنف سيد الموقف، لكن من الذين كانوا يقفون فوق مبنى مجلس الشعب يشيرون بأياديهم ويلقون بالمياه والحجارة على المتظاهرين؟ الإجابة كما يقول قائد المنطقة: «هؤلاء هم موظفو مجلس الشعب الذين دخلوا فى اشتباكات بالحجارة والألفاظ مع المتظاهرين وصدرت الأوامر بإنزالهم، وهو ما حدث، لكن مع تزايد محاولات المعتصمين لاقتحام مجلس الشعب، صعد الموظفون مرة أخرى واحتلوا السطح».
هذه رواية الجانب الآخر عن الاشتباكات، لكن المشهد الذى أثار الضجة الكبرى هو مشهد الفتاة المسحولة التى صارت حديث مصر كلها، سألت القائد عما إذا كانت لديه بنات، فيؤكد لى أن لديه ابنة عمرها ٢٠ سنة، وقال إنها سألته كيف يفعلون هذا بفتاة فى الشارع؟ وأجابها كما أجابنى قائلاً: «لسنا قوات فض شغب، نحن جنود قوات مسلحة مهمتنا تأمين المنشآت، والجنود كانوا يتعاملون بتلقائية ويؤدون عملهم تحت وابل من الحجارة والرخام وزجاجات المولوتوف، وما حدث مع الفتاة أنها اقتربت منهم وسبتهم بشتائم لا تليق، وكانت الأوامر لديهم أن يقبضوا على أى معتصم يقترب منهم أو من المبانى.
كنا فى اشتباك ولذا عندما جذبها الجندى ووقعت على الأرض فوجئ بعباءتها تنفتح، ولا أقول إن لدى عساكر ملائكة، ولكن فى ظل هذا المناخ جاء من ينتقم وضربها بقدمه، لكن لم يتحدث أحد عن العسكرى الذى مد يده ليستر جسدها. هل تعرفين ما وسائل تأمين جندى فض الشغب؟ عصاة وقنابل مسيلة للدموع ودرع وخرطوش، لكن الجندى الموجود فى التحرير ليس معه سوى عصا سميكة ودرع. وسحب منه الخرطوش منذ نزوله الشارع، ثم سحبت منه القنابل المسيلة للدموع بعد أحداث محمد محمود، وبالتالى لا يمتلك ما يدافع به عن نفسه ويحمى به المنشآت سوى العصا والدرع والرد بالطوبة نفسها التى تلقى عليه، ويبقى السؤال: أليسوا يقولون إن تلك مظاهرات واعتصامات سلمية؟ هل السلم يعنى أن تقذفنى بالطوب والمولوتوف وتحرق منشآت مهمتى تأمينها؟».
ترن فى أذنى عبارة «اليد الخفية»، التى يعلق عليها المجلس العسكرى كل تلك الأحداث منذ عدة أشهر دون أن يكشف لنا ولو إصبعاً واحداً حتى يومنا هذا، وسألت القائد عما إذا كان شاهد طيلة الفترات الماضية أى شىء غامض؟ فأجاب: «ليس من مهامى التعليق، ولكن العالمين ببواطن الأمور يعرفون أن هناك شيئاً خفياً، وما أراه كل يوم فى الشارع يؤكد لى حدسى، ولن أتهم المتظاهرين الذين يملأون الميدان بالآلاف، ولكننى أتهم من يندسون بينهم وأرصدهم بحكم التواجد ليل نهار فى المكان، ولا أعلم لماذا لا يعلن المسؤولون عن المتهمين الحقيقيين الذين تؤكد التحريات تورطهم، لكن قد تكون القرائن غير مكتملة، ولو كنت مسؤولاً لألقيت القبض على أى شخص تحوم حوله شبهات، لأنه لا يمكن أن نظل فى تلك الفوضى كثيراً».
سألته عن سبب قيامهم بفض الاعتصام فى التحرير فجر السبت وهدم الخيام، فقال: «ما حدث أن الجنود كانوا يقفون فى أول شارع قصر العينى خلف الأسلاك الشائكة، وبدأ المعتصمون فى إلقاء الحجارة عليهم، فاخترق أحدها عين مجند وانفجر الدم من عينه كنافورة، فاندفع نحوهم من شدة الألم ولحق به زملاؤه ووضعوه جانباً، ثم اندفعوا خلف المتظاهرين، هل تعرفين أننى أعذر فى بعض الأحيان شباب المتظاهرين لأنهم باتوا بلا شىء مما خرجوا فى سبيله فى ٢٥ يناير.. سرقت منهم ثورتهم عبر سياسيين ملأوا الدنيا كلاماً، وبحث كل منهم عن مصلحته الخاصة، فتفرقوا وأساءوا للمتظاهرين الذين لم يكسبوا شيئاً.
بعض السياسيين المفوهين فى القنوات يحضرون لنا ويعلنون عبارات من عينة الهدنة ووقف العنف ويتاجرون بالكلمة على الشاشات، ويقولون عكس ما اتفقنا عليه». طلبت من القائد الحديث مع بعض المجندين ممن عايشوا الأحداث.. يقول المجند رجب، الذى لا يتجاوز عمره ٢٢ سنة، إنه من سوهاج وحاصل على مؤهل فوق متوسط، وإن تجنيده بدأ فى فبراير ٢٠١٠، سألته عما حدث فقال بعبارات متقطعة: «الدنيا ولعت يوم الخميس بالليل فجأة لقينا طوب ونار نازلة علينا جرينا والظباط قالوا لنا نقبض على أى حد بيحدف طوب أو بيحاول يكسر سور مجلس الشعب والمبانى اللى حوالينا». وسألته كيف كان يتابع المعتصمين قبل الأحداث، فأجاب: «كل يوم أتشتم بالأب والأم، أسكت عشان القائد قال ما تردش، ولو كنت بره الخدمة وشتمونى زى ما كانوا بيشتموا كنت قطّعتهم، أنا مؤهل فوق المتوسط، متعلم يعنى، وابن ناس برضه وأهلى طيبين أجيب لهم الشتيمة؟ هما يحبوا حد يشتمهم بأبوهم وأمهم؟ طيب أدينا قاعدين فى حالنا ورا السور الأسمنت ده، ليه بيطلعوا فوق عواميد النور ويبصوا علينا ويخبطوا على العواميد بالحديد، أنا كل منايا أخلّص الخدمة وأرجع بلدنا وأشتغل وأشوف حياتى».
نترك رجب ونسير فى اتجاه مجلس الشعب فنجد المجند عبدالباقى، ٢٢ سنة أيضاً، من الفيوم. يقول إنه جاء للمنطقة منذ ٢٠ نوفمبر الماضى، ويضيف: «زى ما كان فيه ناس بتشتم بالأب والأم، كان فيه ناس طيبة يقولوا السلام عليكم، أو يسألوا لو كنا عايزين حاجة، لكن برده شفنا حاجات مش ولابد، يعنى كان فيه خيمة جنب مجلس الوزرا من ناحية شارع قصر العينى ما بيدخلهاش كل يوم غير تلميذة كانت بتيجى بلبس المدرسة، وولد شاب قاعد هنا على طول ويدخلوا ويغيبوا، ولما المعتصمين حسوا إن فيه حاجة غلط ضربوهم ومشوهم من الخيمة وما رضيوش يرجعوهم تانى».
سألت عبدالباقى عن أحداث الجمعة فقال: «أنا ما شفتش البداية لكن فجأة لقينا الدنيا باظت، طوب على مجلس الشعب وعلى زمايلنا وولعوا نار فى الخيم بتاعتهم اللى هنا ومولوتوف، والأوامر جاءت لنا نحمى الشوارع والمبانى بأى طريقة، وما كانش قصدنا نضرب حد، واللى يحاول يقرب منا كنا